تشكل الأزمة الأخيرة التي أعقبت عزل مرسي من طرف الجيش يوم 3 يوليو الماضي، أكبر تحدّ خارجي تواجهه إدارة أوباما منذ أعيد انتخابه لفترة رئاسية ثانية في شهر نوفمبر من عام 2012. وكان السبب الأساسي لاندلاع الأزمة يعود لقرار القيادة العامة للجيش المصري باستخدام القوة لفض اعتصامات "الإخوان المسلمين"، وخاصة منها تلك الأحداث الدموية التي شهدتها مصر يوم 14 أغسطس والتي أدت إلى مقتل 300 متظاهر في القاهرة وبعض المدن الأخرى. وبحلول يوم 19 أغسطس، ارتفعت حصيلة القتلى إلى ما يقارب الألف. وتتلخص مشكلة أوباما في أن الولايات المتحدة، خلافاً لموقفها من الحرب الأهلية في سوريا عندما أعلنت عن عدائها الواضح لبشار، كانت قد عمدت إلى توظيف استثمارات مهمة في مصر على مدى السنوات الماضية، جلّها يرتبط بالتعاون العسكري. ومن المفهوم دائماً أن الولايات المتحدة كانت تنجح في الحفاظ على نظام حاكم حليف لها في مصر حتى لو كانت ممارساته فيما يتعلق بالديمواقراطية وحقوق الإنسان تتناقض مع الطروحات الرسمية لسياسة واشنطن. وحدث التطور الإيجابي الأول في العلاقات الأميركية- المصرية في أعوام عقد السبعينيات عندما عمد الرئيس الراحل أنور السادات إلى اتخاذ قرار بقطع علاقات التعاون العسكري مع الاتحاد السوفييتي ووقع اتفاقية السلام مع إسرائيل. وما كان في وسعه أن يخطو هذه الخطوة الجريئة لو لم يلمس التأييد الكامل من القيادة العليا للقوات المسلحة. وهذه بالضبط هي السياسة التي تبنّاها مبارك عندما أصبح رئيساً عقب اغتيال السادات على يدي إسلامي متطرف (خالد الإسلامبولي) في شهر أكتوبر من عام 1981. وبالعودة إلى المساعدات التي يتلقاها الجيش المصري من الولايات المتحدة، لا بد من الإشارة إلى أن القيادة العسكرية المصرية لم تتلقَّ منها السلاح بالغ التطور فحسب، بل إن هذه القيادة باتت غنية (مادياً) عندما باتت تتحكم بالقطاعات الرئيسية للاقتصاد المصري. وهي الآن ليست بصدد التخلي عن هذه الامتيازات بأي حال من الأحوال. ولم تتأخر القيادة العسكرية عن إيضاح هذه الحقائق لمرسي خلال فترة الأشهر القليلة من حكمه التعيس. وحظي الهجوم الكبير على “الأخوان” بالمباركة التامة من دول الخليج الكبرى وخاصة منها المملكة العربية السعودية. وسارعت المملكة إلى دعم القيادة العسكرية الجديدة بما يزيد عن عشرة مليارات دولار، وهو مبلغ ضروري وحيوي إذا أرادت مصر تجنّب الإفلاس. ولا بد من الانتباه هنا إلى أن هذا السخاء الخليجي لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. وبات من المحتوم أن تستعيد مصر نشاطاتها التجارية بما فيها السياحة التي تُعدّ عصب الاقتصاد المصري، بأسرع وقت ممكن. وإذا لم تتمكن من تحقيق هذا الشرط المهم، فإن البلد سيواجه حالة من الشلل الاقتصادي تكفي لإشعال غضب في الشوارع من طرف المصريين العاديين (غير المتطرفين) لا يمكن تخيل مداه، وليس من المحتمل أن يتمكن الجيش ذاته من السيطرة على الفوضى التي ستنتشر في عموم البلاد. وهذا يفسر السبب الذي دفع بالقادة العسكريين لاستخدام قوتهم القصوى من أجل الإسراع في استعادة الاستقرار للبلد والعثور على طريقة لتحقيق هذه الغاية من دون إغضاب الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، التي باتت تشك بحكمة السياسة التي تبنتها القيادة السياسية. ولقد طالب عدد من أعضاء الكونجرس من كلا الحزبين “الديموقراطي” و”الجمهوري” بتجميد المساعدة العسكرية لمصر. وبالرغم من كل هذا الذي يحدث، فلقد اكتفت إدارة أوباما باتخاذ قرار بإلغاء المناورات العسكرية المشتركة "عملية النجم الساطع"، والتي كان من المفترض أن تنطلق في شهر سبتمبر المقبل، إلا أن أوباما يتعرض الآن لضغط متزايد لوقف إرسال المساعدات العسكرية لو تفاقمت عمليات قتل المدنيين. والحقيقة التي ينبغي أن تُقال بوضوح، هي أن “الإخوان” سجلوا فشلاً ذريعاً في محاولات حكم مصر للدرجة التي باتوا معها يستحقون العزل. وليس هناك ثمة من شك في أن أوباما يدرك هذه الحقيقة جيداً، إلا أنه لا يستطيع أن يعلن جهاراً بأن القيادة العسكرية المصرية متورطة في استباحة الحريات المدنية للمواطنين، وبأنه باعتباره رئيس الولايات المتحدة والفائز بجائزة نوبل للسلام، لا يمكنه أن يبقى صامتاً على مثل هذه المسائل. وتكمن المعضلة الحقيقية التي يواجهها في أنه فقد قوة النفوذ التي يمكنها أن تؤثر في مجريات الأمور التي تشهدها مصر، وبأن ترحيبه المُعلن سابقاً بحكم الإخوان المسلمين لم يؤدّ إلى حدوث حالة جفاء مع جنرالات القاهرة فحسب، بل وأيضاً مع العديد من القادة ذوي التأثير القوي في دول الخليج العربي. وفي نتيجة هذه الأحداث والمواقف، ظهر أوباما في صورة الإنسان الفاقد لقوة التأثير. وهذه هي المرة الأولى منذ ما يربو على 30 عاماً التي يبدو فيها نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ضعيفاً إلى الحدّ الذي فقد معه قوة تأثيره في الأحداث الكبرى التي تشهدها المنطقة، وخاصة منها تلك التي واكبت الانتفاضات الثورية العربية. ومع ذلك، يبقى هناك سؤالان إقليميان جوهريان يمكن أن يكونا في منتهى الحرج لآلة صنع القرار السياسي في أميركا: الأول يتعلق بقدرة الولايات المتحدة على إنجاح عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية. ويتعلق الثاني بالقدرة على تأسيس علاقة ثنائية ناجعة مع إيران، وسيكون الحكم على ما إذا كان أوباما يمتلك الخبرة والبراعة الكافيتين لتحقيق هذين الهدفين في الوقت الذي سيولي فيه اهتماماً موازياً بأزمتي مصر وسوريا، وهذا يمثل الاختبار الأكبر لقيادته للبيت الأبيض خلال الأشهر المقبلة.