ليس هناك من شك في أن ثورة 25 يناير قد أدت- بحكم نجاحها في إسقاط النظام السياسي- القديم إلى انفجارات سياسية لا حدود لها، وإلى انقلابات اجتماعية في مجال القيم الثقافية والسلوك الاجتماعي على السواء، سواء بين ما اصطلح على تسميتهم بالنخبة وبين الجماهير الغفيرة. وقد أتيح لي أن أتابع بصورة يومية أحداث الثورة وتقلباتها ابتداء من الثورة التونسية التي كتبت عنها قبل وقوع ثورة 25 يناير مقالاً بعنوان "أسئلة الثورة المستمرة" نشر بتاريخ 27 يناير 2011. وما لبث أن اشتعلت ثورة 25 يناير المصرية الرائدة على مستوى العالم، ولذلك تفرغت تفرغاً تاماً لمتابعة أحداثها، وقد جمعت تحليلاتي اليومية للأحداث الثورية في كتابي "25 يناير الشعب على منصة التاريخ: تنظير مباشر لأحداث الثورة" الذي نشره المركز العربي للبحوث في شهر مايو 2013. واليوم وبلادنا تواجه أحداثاً إرهابية بالغة الحدة والعنف يقوم بها أتباع جماعة "الإخوان" كرد فعل لفض اعتصامات "رابعة العدوية" وميدان "النهضة" ينبغي أن نقف أمامها وقفة تحليلية دقيقة لتفسير ما يحدث. ويمكن القول- من دون أدنى مبالغة - أن هذه الأحداث المروعة التي أشعلها أعضاء جماعة "الإخوان" على مستوى محافظات مصر جميعاً تهدف في الواقع إلى هدم الدولة وتفكيك المجتمع. وقد التفتنا إلى الانحرافات الجسيمة في مسار ثورة 25 يناير منذ الشهور الأولى من عام 2012، وكتبنا في 29 مارس مقالاً بعنوان "من إسقاط النظام إلى هدم الدولة وتفكيك المجتمع". وقلنا فيه بالنص "اليوم التالي للثورة لا يقل أهمية بل قد يفوق أهمية يوم وقوع الثورة نظراً لأن هناك احتمالات متعددة". فقد تفشل الثورة ويعود النظام القديم بصورة أبشع مما كان في السابق مسلحاً بالرغبة في الانتقام، وقد تنجح الثورة في اقتلاع جذور النظام القديم، ولكن قد يترتب عليها وضع سياسي ينجم عنه قيام ديكتاتورية من نوع جديد، أو انقلاب في توجهات بعض القوى الثورية سيجعلها تسعى إلى هدم الدولة ذاتها، وقد يحدث انفجار اجتماعي يؤدي في النهاية إلى تفكيك المجتمع". وهذه النبوءة المبكرة تحققت في الواقع أولاً على يد فئة ثورية مزعومة هي "الاشتراكيون الثوريون" الذين يطبقون بطريقة ساذجة مبادئ المذهب الفوضوي الغربي، لأنهم صرحوا أمام شاشات التليفزيون في مصر أن هدفهم الأساسي هو هدم الدولة وتفكيك المجتمع حتى ينشئونه من جديد على أساس التسيير الذاتي! وهذه الدعوات التي تكشف عن مراهقة يسارية لا تستحق التعليق عليها أو مناقشتها في الواقع. غير أنه أخطر من هذه الاتجاهات الاحتمال الذي حذرنا من وقوعه بعد إسقاط النظام القديم، وهو وضع سياسي ينشأ وينجم عنه قيام ديكتاتورية من نوع جديد. ويمكن القول إن هذه العبارات أدق توصيف لحكم "الإخوان". وذلك لأنهم- وإن كانوا حصلوا على الأكثرية أولاً في مجلس الشعب الذي أبطل، وفي مجلس الشورى وفقاً للقواعد الديموقراطية- إلا أنهم وفقاً لشعار "مغالبة لا مشاركة" هيمنوا هيمنة كاملة على السلطة وأساؤوا استخدامها، وخصوصاً بعد أن فاز مرسي في انتخابات رئاسة الجمهورية بفارق ضئيل للغاية في مواجهة منافسة الفريق شفيق، وهكذا – وفقاً لقواعد الديموقراطية الشكلية- أصبح رئيساً للجمهورية، وما لبث أن طبق سياسات إقصائية همش فيها كل القوى السياسية المعارضة وحتى حلفاؤه من السلفيين، وتمادى من بعد حين أصدر الإعلان الدستوري الشهير الذي نصب فيه نفسه ديكتاتوراً مطلق السراح ولا معقب عليه، وهو ما أدى إلى انقلاب المجتمع السياسي على جماعة "الإخوان"، بعد أن أدرك قادته أن مصر باعتبارها وطناً وبكونها نظاماً سياسياً ديموقراطياً نشأ بعد إسقاط النظام القديم، أصبحت مستباحة يفعل بها "الإخوان" ما يشاءون، بل ويهددون وبشكل مباشر أمنها القومى، بناء على توجهاتهم الفكرية المنحرفة التي لا تؤمن بسيادة الدول على إقليمها، وتطمح إلى إقامة خلافة إسلامية تذوب فيها الدول المستقلة منذ قرون، وتصبح مجرد ولايات يحكمها خليفة إسلامي واحد! وقد حاولت جماعة "الإخوان" عبر عدد من الإعلاميين الذين يناصرونها بالحق وبالباطل الزعم بأن عدد الجماهير الغفيرة التي نزلت الميادين يوم 30 يونيو ضئيلة للغاية، وأن دعم القوات المسلحة للجماهير الشعبية التي طالبت بإسقاط حكم "الإخوان" ليس إلا انقلاباً! والواقع أن هذا الإنكار فيه تجاهل صارخ للواقع الميداني، وهو الذي أدى إلى وقوع "الإخوان" في فخ ممارسة الإرهاب الصريح، ليس ضد سلطة الدولة أو مؤسساتها فقط، ولكن ضد الشعب المصري ذاته! وإن المرء ليعجب كيف يمكن لهذه الجماعة المتطرفة التي تدعو لعودة الرئيس المعزول أن تتصور أنها يمكن أن تحكم الشعب المصري بالعافية، بعد أن نجحت نجاحاً منقطع النظير في أن تبلور ضدها لأول مرة في تاريخها مشاعر كراهية شديدة من قبل المواطنين العاديين لأعضائها، بعد أن ثبت بالدليل الحي أنها في الواقع جماعة إرهابية رفعت السلاح ضد الدولة وضد المجتمع، ولم تتوان عن إشعال الحرائق في المؤسسات العامة واقتحام أقسام الشرطة والقتل المتعمد لعديد من الضباط والجنود. ومن هنا تبدو الأحاديث التي تتكلم عن "المصالحة" من قبل "اللا معقول"! مصالحة مع من؟ مع قادة الجماعة الذين حرضوا أعضاء الجماعة على الاعتصامات المسلحة، وبعد ذلك حشدوهم حشداً في الميادين لممارسة الإرهاب الصريح. لقد اجتهدنا مع بداية الأزمة في اقتراح ضرورة ممارسة كل الأطراف للنقد الذاتي سعياً وراء المصالحة الوطنية، غير أنه بعد الدماء التي تسببت الجماعة في إهراقها سواء من بين أعضائها أو من بين أفراد الشرطة والقوات المسلحة، فلابد أولاً من المحاسبة الدقيقة عليها وفقاً للقواعد القانونية المستقرة، عبر محاكمات علنية لكل من مارس الإرهاب، سواء في ذلك ضد الدولة أو لترويع المواطنين. ما يجري في البلاد من إرهاب منظم والذي تؤيده كل من الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية يعبر عن "الغباء التاريخي" لقادتها، لأن هذا الموقف يضعهم في صف أنصار الإرهاب. أما قادة جماعة "الإخوان" فقد قرروا -فيما يبدو كرد فعل لفشلهم الذريع وسقوط حكمهم المدوي- ممارسة الانتحار السياسي، لأنهم وضعوا أنفسهم – ويا للغرابة- في مواجهة الشعب المصري!