حذّرني صديق من اجتياز الحدود الإيطالية بالسيارة التي استأجرتها من ألمانيا وسافرت بها إلى سويسرا، وقال إنها مبرمجة لتتوقف عند الاقتراب من الحدود الإيطالية، لأن الشركات الألمانية تخشى من اختفاء سياراتها هناك بوجود عصابات محترفة تعمل تحت ظل شرطة متهاونة. وليس مهماً إن ْكان هذا التحذير مستنداً إلى معلومات أو هو مجرد أقاويل، فثمة انطباع بأن دولاً مثل ألمانيا، وسويسرا، وفرنسا، وبريطانيا، والسويد، هن بمنزلة الشقيقات، بينما إيطاليا تعد بنت خالة لهن. والفرق واضح بين الشرطتين الألمانية والإيطالية، من حيث الانضباط، وبين الدوريين الإنجليزي والإيطالي، من حيث المصداقية، وبين النظامين السياسي والإداري في فرنسا وبين الذي يجري في إيطاليا، من حيث المراقبة والمساءلة. نحن نحكم بذلك لأننا نستخدم معياراً يُستخدم مثله في الفقه يسمى "مهر المِثل"، والذي يحدد بموجبه المهر في حال عدم تسميته في العقد، فيكون مهر المرأة مثل مهر من يماثلها من أهلها وأقرانها في السن والجمال والمال والعقل والبلد والبكارة والثيوبية. ويخرج المرء راضياً من المقهى لو دفع في فنجان القهوة مبلغاً مماثلاً للمبلغ الذي يُدفع في المقاهي التي تطل على الشارع نفسه، وتقدم مستوى متقاربا من الخدمة والجودة والنظافة. لكنه قد يخرج مستاءً لو دفع مبلغاً أكبر، وقد يخرج مرتاباً لو دفع مبلغاً أقل. وإيطاليا دولة ناجحة عند مقارنتها بالسنغال مثلاً، لكنها ليست كذلك عند مقارنتها بـ"الدول الِمثل" التي تنحدر معها من حضارة واحدة، ومن تاريخ مشترك في الكثير من جوانبه، وتحمل شعوبها هوية وثقافة كالتي لدى الإيطاليين. ومن ثم، فإن الإيطالي الذي يمد عينيه إلى ألمانيا، لا يمكن لومه واعتباره جاحداً يرفع سقف مطالبه بطريقة غير واقعية، وفي المقابل، يمكن اعتبار الإيطالي الذي يقارن بين بلاده وبين بنجلاديش مثلاً، إنساناً خانعاً مستسلماً للواقع. ومن اعتبر سياسة فرنسا تجاه النقاب سياسة متشددة، ذهب إلى هذا الرأي مستخدماً معيار "الرجل العادي"، والذي يُستخدم في القانون المدني لتحديد إنْ كان الخطأ الذي ارتكبه الفاعل يستوجب التعويض من عدمه، فيقاس الانحراف الذي صدر منه بالنسبة إلى الشخص المعتاد الذي يمثل جمهور الناس، أو المتوسط بين خارق الذكاء والغبي، في الظروف نفسها وبالشروط نفسها، فإن جاوز فعله سلوك الرجل العادي اعتبر متعدياً، وإلا فلا شيء عليه. وعليه، تعد سياسة فرنسا متشددة قياساً إلى طريقة التعامل مع الأديان وشعائرها ورموزها في دول تتشابه معها سياسياً وثقافياً واجتماعياً وحقوقياً، كبريطانيا وألمانيا. ومن يلوم أميركا على "جوانتانامو"، يفعل ذلك وهو يرى بريطانيا وفرنسا اللتين تضررتا من الإرهاب أيضاً، وتواجهان التحديات نفسها التي تواجهها أميركا، ولدى أميركا منظمات حقوقية كالتي لدى بريطانيا وفرنسا، ومع هذا، لدى أميركا تلك القاعدة وليس لبريطانيا وفرنسا قواعد مماثلة، ولو لم يستخدم معيار "الرجل العادي" هنا، لكانت فكرة وجود "جوانتانامو" قياساً إلى ما يحدث في البلدان المتخلفة من قتل وإبادة، فكرة تستحق التصفيق. وأنت تعذر صديقك الذي تأخر في الحضور لوجود حادث في الطريق، فمن شأن الرجل أو السائق العادي أن يتأخر في هذه الحالة، لكنك لن تغفر له لو وصل إلى "المول" حيث اتفقتما على اللقاء، ثم تركك تنتظر وهو يتبضّع من المحال التجارية، فالرجل أو الصديق العادي، لا يصدر منه هذا السلوك. كان يمكن لـ"الربيع العربي" أن يعطي نتائج أفضل لو كان معيار "مهر المِثل"، ومعيار "الرجل العادي" حاضرين في أذهان من تحمّسوا له.