في بيان «الخارجية» الإماراتية بشأن تفهّمها لتحرك الجيش المصري لفض اعتصامي ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة يوم الأربعاء الماضي، اللذين كان مؤيدو الرئيس المعزول محمد مرسي يعتصمون فيهما، وردت ثلاث نقاط مهمة: النقطة الأولى أن دعم الإمارات لتدخل الجيش هو دعم لإرادة الشعب المصري الذي فوض جيشه الوطني لأداء هذه المهمة. والنقطة الثانية أن هموم مصر هي نفسها هموم الإمارات؛ وبالتالي فإن ما يهم الاستقرار الوطني في مصر لا بد أن يهم الإمارات، في دلالة على التكامل في علاقة رسختها العديد من المواقف الاستراتيجية. والنقطة الثالثة أن هناك إدراكاً إماراتياً لأهمية «الدولة المصرية القوية» في مسالة التوازن الاستراتيجي الإقليمي. وإذا كان موقف الإمارات المؤيد للجيش قوبل من الشعب المصري بالتقدير والامتنان، فإنه أشاع قدراً كبيراً من الحيرة لدى بعض الدول، والغضب لدى «إخوان» الخليج ومؤيديهم الذين أثبتت مواقفهم أنهم دعاة فوضى لا «إصلاح». ومن الناحية الاستراتيجية، فإن النهج الذي سلكته دولة الإمارات في تعاملها مع الأزمة المصرية يتطلب منا أن نقرأ دلالاته السياسية والأمنية جيداً بطريقة موضوعية وبعيدة عن العاطفة وبعيدة أيضاً عن الحساسية العربية؛ لأن هذا النهج يرسل الكثير من الرسائل. بعض تلك الرسائل يتعدى الحالة المصرية الحالية، كما يتعدى مضمون الموقف الإماراتي من قضية «الإخوان» الذين عانت منهم كل المجتمعات العربية بنسب متفاوتة، وإن كانت دولة الإمارات قد أدركت خطورتهم وقررت التعامل معهم بجرأة وشفافية. أتحدث هنا أنه لا يمكن لدولة، مهما كان حجمها الجغرافي وثقلها السياسي في العالم، التسليم بوجود سلطتين فيها. وفي هذا الصدد لدينا الكثير من التجارب التاريخية، سواء في العالم الأول أو غيره. وأظن أنه لا أحد يستطيع نسيان موقف الحكومة الأميركية في فض اعتصامات ساحة «وول ستريت» قبل عامين، أو نسيان ما فعله الجيش التركي مؤخراً في ميدان «تقسيم» عندما قام بفض الاعتصام بالقوة. وهنا أتكلم عن دول «تدعي» أنها تتمتع بحريات رأي وحقوق إنسان، ولكن لو ابتعدنا أكثر فإن ميدان «تيانانمين» في أواخر عام 1989 ينطوي على كثير من الدلالات. في حالة مصر تواجدت مجموعة مارقة في ميدان رابعة العدوية، وكانت تعمل على فرض الأمر الواقع باعتبارها «سلطة» أو «شرعية»، وهو الأسلوب المتبع لدى جماعة «الإخوان» في مواجهة المجتمع. أما السلطة الأخرى التي تمتلك الشرعية الحقيقية، فهي الحكومة المؤقتة التي جاءت بها ثورة شعبية في الثلاثين من يونيو الماضي. وهذه الازدواجية وضعت الحكومة المصرية المؤقتة في موقف محرج، ليس فقط بالنسبة للداخل المصري الذي منح الحكومة المؤقتة ثقته، ولكن في متابعة القوى الدولية والإقليمية لكيفية تصرف الحكومة المصرية مع سياسة «كسر اليد» التي ترغب فيها جماعة «الإخوان»، وبالتالي كان ذلك مؤشراً مهماً للدول العربية في كيفية مواجهة مثل هذه الاختراقات الأمنية، فكان موقف دولة الإمارات واضحاً وصريحاً في إعلان رفضها لها، ليس في مصر فقط ولكن في أي مكان في العالم. وفيما يخص مسألة فهم بيان الخارجية الإماراتية أيضاً، أقول إن الدول العربية كلها كانت أمام لحظة تاريخية حاسمة في مواجهة ما يشبه «إنفلونزا الإخوان»، التنظيم الذي اختار مواجهة الشعب والمجتمع بالتهديد باستخدام أقصى درجات الفوضى والتعويل على التأييد الدولي له، والابتعاد بشكل كامل عما يهم الناس والوطن حتى لو أدى ذلك إلى تدمير المجتمع. وبما أننا ندرك كمراقبين أن الظواهر السياسية العربية تبدأ في مصر باعتبارها «ترمومتراً» لقياس مدى نجاحها في الدول العربية الأخرى، فقد كان حتمياً أن تتآزر كل الدول العربية في دعم التحرك المصري أسوة بما فعلته الإمارات، وإلا فإن تكرار المشهد سيكون طبيعياً، وربما كانت تجربة ما يسمى «الربيع العربي» أوضح دليل، مع أن الظروف مختلفة بين مصر والإمارات. بل إن رسالة «الإخوان» من ناحية الإيحاء بقوتهم ضد الحكومة كانت قد بدأت تسري في ذهنية المواطن العربي، إلى درجة أنه قد بدأت التساؤلات: إلى متى سوف تستمر عمليات الاحتكاك هذه مع التيارات السياسية الدينية؟! هاتان النقطتان تعززان نقطة ثالثة كانت موجودة عند المراقبين وكذلك الناس العاديين، وهي أن النتائج والتداعيات التي تلت عملية فض الاعتصامين، حتى مع توقع الخسائر وبعض ردود الفعل الدولية السلبية، لم تكن لتبرر السكوت على ما تهدف إليه الجماعة، خاصة أن المواقف الدولية تتغير مع استقرار الوضع؛ لأن دولة إقليمية مثل مصر لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها. ولذا أظن أن أهمية الموقف الإماراتي تكمن في أنه جاء في وقت كان الشعب المصري يواجه فيه ضغوطاً دولية وتهديدات بوقف المساعدات الأميركية والأوروبية، وكان يتعين أن يكون المخرج أو الاختراق عربياً على الأقل. وإذا توسعنا في قراءة بيان الخارجية الإماراتية، فإن هيبة الدولة في مواجهة الخروج على القانون في أي مكان في العالم لا تقبل المساس بها، بل إن المسائل السيادية تفرض على كل الدول في العالم التدخل فيها. وفي حالة مصر كانت هناك مؤشرات على أن «هيبة الدولة المصرية» بدأت تتآكل أمام سلوكيات أفراد من المجتمع، مما جعل الشعب يعيش حالة قلق على مستقبلة وعلى حياته، بل إن الاقتصاد المصري كان شبه متوقف. أصداء ما كان يحدث في اعتصامات «الإخوان» وما سبقه عندما كانوا في السلطة لمدة عام، إلى جانب كثير من الأحداث التي رافقت تواجدهم على رأس الهرم السياسي، كانت كافية لأن تشعر دولة الإمارات أن استمرار الوضع من شأنه تدمير مصر وتدمير المجتمعات الأخرى وليس إعادة بنائها، وبالتالي لا بد أن يكون انحياز الإمارات إلى خيار الشعب المصري. والإمارات لم تكن لتجازف بموقفها ما لم تحصل على تفويض من الشعب لمواجهة الفوضى، ولم تكن لتتحرك لولا أنها استوعبت ألاعيب «الإخوان». والبيان السياسي لدولة الإمارات صدر في اللحظة الحاسمة التي تكشف بوضوح عن الفارق بين الدولة صاحبة القرار والدولة المترددة.