عندما تصدّى بوش الابن للهجمات الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001، تعامل معها باعتبارها تندرج ضمن أعمال الشياطين، محملاً بذلك الولايات المتحدة واجب استئصال هذا الشيطان الخبيث وابنه الشرعي الإرهاب، وظهر وكأنه يعيد بذلك الأمجاد الأميركية القديمة عن طريق إطلاق حرب كونية جديدة. وبدا وكأن هذه الحرب أصبحت تمثل المفهوم الجديد تماماً بالنسبة للأميركيين في القرن الحادي والعشرين. وهم الذين ظلوا يخوضون لمدة 150 عاماً حروباً لا علاقة لها بالدين. وكان يُنظر إلى الحرب المؤلمة التي تفتقد إلى التخطيط المتقن، والتي أعلنها بوش الابن على الإرهاب العالمي، على أنها الحرب الفاضلة لقتل الشيطان، وهي التي فشلت في تحقيق أهدافها في كل الجبهات التي اندلعت فيها. والآن يأتي أوباما ليعيد توصيفها على أنها حرب ضد مجتمع يمارس نوعاً من الفوضى اليائسة والعجز السياسي في أثناء محاولته البحث عن موقع قدم في القرن الحادي والعشرين. وإذا صدقنا رواية بن لادن عندما أعلن مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، فذلك يعني من وجهة نظره أنه يمثل حركة دينية مضادة للوجود العسكري الأميركي في السعودية وخاصة في الأماكن القريبة جداً من المشاعر الإسلامية المقدسة. ولقد كشفت «الحرب على الإرهاب» وجهها الديني عندما انتشرت القوات الأميركية في البلدان الإسلامية من منطقة الشرق الأوسط، وذلك في عهد ريجان عام 1983، وحيث تم تأسيس قواعد عسكرية عرفت في مجموعها باسم «القيادة المركزية». وكان لوجود هذه القواعد أن يستثير حالة من الامتعاض لدى بعض الأنظمة والدوائر السياسية العربية، أو يخلق العداء العلني ضد نشر تلك القوات حتى أصبحت هدفاً لمحاولات الاعتداء عليها في بعض الأحيان. وكانت الحركة التي أسسها بن لادن عقب هذه الأحداث دينية الطابع، ولا غرابة في ذلك ما دام ينحدر من تنظيم «الإخوان» الذي نشأ في مصر، ثم ما لبث أن تأثر بالفكر المتشدد. ومن المعلوم أن الحركة الجهادية الإسلامية الحديثة ذات دافع ديني، وهي التي نرى نظيراً لها عند المسلمين الشيعة الذين ثبتوا قواعدهم في إيران عقب اندلاع الثورة الإسلامية هناك عام 1979 فيما بقي أهل السنّة تحت تأثير كل من التعاليم الوهابية في المملكة العربية السعودية وأطروحات جماعة الأخوان المسلمين في مصر. وتسعى هذه الحركات الآن إلى تأسيس نظام حكم ديني يحاكي ذلك الذي كان سائداً في أوروبا إبان العصور الوسطى. وبات يتحتم عليها أن تتعلم من الفشل الذريع الذي منيت به دول حاولت فيها تلك الحركات إقامة أنظمة الحكم الإسلامي، مثلما هي الحال في تونس ومصر وسوريا وربما في أفغانستان والبلدان الإسلامية في القوقاز. وتمثل الحركات الإسلامية الأكثر تشدداً شيئاً آخر، وهي التي بدأ الأميركيون يعتادون عليها. ويبدو الدافع الأكثر قوة في تلك الحركات حتى ولو لم يظهر جلياً، هو الشعور بالقومية. وتقف المشاعر القومية وراء الحروب التي أعقبت الحركات الثورية في القارة الأوروبية. فلقد كان للثورة التي حدثت في فرنسا أن تخلق الإلهام بتكوين الدولة الوطنية وتستهلّ النضال ضد الدول المحكومة من جانب الأسر والسلالات. وهو نظام يعود من حيث النشأة إلى العصور الأوروبية الوسطى، وما لبث أن تحطم بفعل الثورات التي أشعلتها الشعوب وخاصة في فرنسا فضلاً عن الحروب التي خاضها نابليون ضد الأنظمة القائمة في بعض الدول. ومع انقضاء القرن التاسع عشر، برزت إلى الوجود الدول الأوروبية الجديدة كقوى قومية. وكان للحرب العالمية الأولى أن تكرّس وجود تلك الدول، وأن تستهلّ الغزو الاستعماري الأوروبي للعالم العربي بعد ذلك. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتضع حداً للشعور القومي في أوروبا، ولكنها أدت إلى نشوء الدولة القومية الأميركية العظمى التي نراها الآن في صيغتها النهائية الأكثر انطواء على الثراء والقوة. وهذا المزيج المشوّش الذي يتألف من الحركات القومية والدينية في منطقة الشرق الأوسط، أدى إلى حدوث سوء فهم لا نظير له في واشنطن كتب له أن يتواصل حتى أيامنا هذه. وبالرغم من أحاديث بوش عام 2001 عن حروب صليبية جديدة، وانتشار المعتقدات الهستيرية التي عبرت عنها دوائر «الجمهوريين» من خطر انتشار تعاليم الشريعة الإسلامية في أميركا والزحف الجديد لمشروع الخلافة الإسلامية في الغرب، إلا أن آلة صنع القرار السياسي دأبت على التعامل مع «الإرهاب العربي» على اعتبار أنه ذو جذور سياسية، ولا يعدو أن يكون قضية فصائل متنوعة المشارب يترأسها قادة يرتبطون بطريقة غير مباشرة بالحكومات الأجنبية. وها هو أوباما يرسل طائراته من دون طيار لضرب القادة المفترضين لتنظيم «القاعدة» ومعهم بقية الناشطين على طول شواطئ البحر الأبيض المتوسط والذين غزوا أفريقيا ووجدوا حظوتهم عند الشباب العاطل عن العمل في بلاد الاغتراب الأوروبية القريبة. وغالباً ما يمثل هؤلاء المتطوعون، القادمون الجدد الذين يرون في الإسلام والجهاد شكلاً من أشكال الخلاص من الظروف الكأداء التي يعيشونها في أوروبا. ويبدو أن «البنتاجون» والبيت الأبيض بقيادة أوباما فهموا من هذه الظاهرة أن أميركا فشلت في إظهار قوتها وقدرتها على السيطرة على العالم العربي عن طريق التدخل العسكري واسع النطاق وإعطاء الأولية لإشراك وتوظيف التكنولوجيات العصرية المتقدمة، والتي أصبح في وسعها الانتصار على الإرهاب بقتل الجهاديين فرداً فرداً ومعهم أتباعهم وعائلاتهم باستخدام الطائرات من دون طيار. وقد لا يحتاج المرء لأن يكون منجّماً حتى يتأكد من أن هذه الخطة ستفشل أيضاً. ويليام فاف محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»