خرج الشعب المصري بالملايين في 30 يونيو الماضي رفضاً لحكم فاشي جائر عديم الكفاءة لم يروا منه إلا تفاقم مشكلات حياتهم اليومية وعصفاً بما تحقق من منجزات ديمقراطية وسيطرة أو «أخونة» لكافة المواقع المهمة للدولة. استندت القوات المسلحة إلى هذا الخروج العظيم وحاولت إقناع الرئيس المعزول بالاستجابة إلى المطالب الشعبية، أو أهمها، فرفض فأمهلته 48 ساعة مرت دون جدوى، فقامت بعد التشاور مع الرموز السياسية والدينية بعزله وإحلال رئيس المحكمة الدستورية العليا محله وتعطيل العمل بالدستور إلى حين تعديله وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية على أساسه. وقد لقيت هذه الخطوة تأييداً شعبياً هائلاً ولكن القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أصابها مسٌّ من الجنون واعتبرت ما حدث انقلاباً عسكرياً غير عابئة بوزن الضغوط الشعبية التي أدت إلى هذه التطورات، متذرعة بشكليات ديمقراطية لو تم الالتزام بها حرفياً لفقدت الديمقراطية جوهرها. وعندما تأكدت هذه القوى من التأييد الشعبي لتلك التطورات وإصرار الحكم عليها عدلت موقفها القاضي بأن ما حدث انقلاب عسكري وبدأت مرحلة جديدة تركز فيها على المصالحة، وهي مصالحة مستحيلة لأن أحد طرفيها وهو «الإخوان المسلمين» كان هو المقصود بالثورة الشعبية بالإضافة إلى أنهم لم يبدوا أي مرونة في مطالبهم التي كانت تعني ببساطة العودة الكاملة إلى ما قبل 30 يونيو. وأخيراً ركزت هذه القوى على عدم فض اعتصامات «الإخوان المسلمين» مع أنهم كانوا يكدسون فيها الأسلحة ويخرجون يومياً في «بعثات» قطع طرق وتخريب بل وقتل للأبرياء. وعندما بدأت عملية فض الاعتصامات مع عدم استخدام القوة إلا دفاعاً عن النفس أصبح جنون القوى الغربية مطبقاً وبدأت عملية استدعاء سفراء والإدلاء بتصريحات كان أفضلها ما يطالب الطرفين بضبط النفس، مع أن السلطات المصرية صبرت على المعتصمين قرابة شهر ونصف الشهر، ووصل الأمر إلى حد دعوة مجلس الأمن للبحث في التطورات وانعقد بالفعل في جلسة تشاورية انتهت ببيان لا يسمن ولا يغني من جوع. لقد تعمدت أن أذكـّر بأساسيات الموقفين الأميركي والأوروبي حتى تكون المقارنة بالمواقف العربية بعد أحداث 30 يونيو والتغيرات التي أعقبتها. وقد سارعت كل من الإمارات والسعودية إلى تقديم مساعدات سخية لمصر كان لها بالإضافة لآثارها الاقتصادية الإيجابية أطيب الأثر كدعم معنوي للشعب والحكم في مصر. أما بعد بدء فض الاعتصام والجنون الذي أصاب القوى الغربية، وفي ذروة الإحساس الشعبي بالمرارة من هذه المواقف التي لا يجد لها مبرراً، أدلى خادم الحرمين الشريفين ببيان في منتهى القوة ضرب فيه عرض الحائط بالموقف الأميركي والمواقف الأوروبية. في هذا البيان وصف ما يجري في مصر بأنه يسر كل عدو كاره لاستقرار مصر وأمنها، ويؤلم في الوقت ذاته كل محب حريص على ثبات ووحدة الموقف المصري الذي يتعرض اليوم لكيد الحاقدين في محاولة فاشلة -إن شاء الله- لضرب وحدته واستقراره من قبل كل جاهل أو متعمد أو غافل عما يحيكه الأعداء. ثم أهاب برجال مصر والأمتين العربية والإسلامية من العلماء وأهل الفكر والوعي والعقل والقلم أن يقفوا وقفة رجل واحد وقلب واحد في وجه كل من يحاول زعزعة دولة لها في تاريخ الأمة الإسلامية والعربية مكان الصدارة مع أشقائها من الشرفاء، وألا يقفوا صامتين تجاه ما يحدث، وأضاف قائلاً: «ليعلم العالم أجمع بأن المملكة العربية السعودية شعباً وحكومة وقفت وتقف اليوم مع أشقائها في مصر ضد الإرهاب والضلال والفتنة وكل من يحاول المساس بشؤون مصر الداخلية لردع كل عابث أو مضلل لبسطاء الناس من أشقائنا في مصر، وليعلم كل من تدخل في شؤونها الداخلية بأنهم يوقدون نار الفتنة ويؤيدون الإرهاب الذي يدعون محاربته آملاً أن يعودوا إلى رشدهم قبل فوات الأوان، ومصر الإسلام والعروبة والتاريخ المجيد لن يغيرها قول أو موقف هذا أو ذاك، وأنها قادرة بحول الله وقوته على العبور إلى بر الأمان. يومها سيدرك هؤلاء أنهم أخطأوا يوم لا ينفع الندم». ترك هذا التصريح أبلغ الأثر في نفس كل مصري سواء بالنسبة لتوقيته الذي تكالبت فيه القوى الكبرى على مصر، أو بالنسبة لمضمونه الذي لم يكتف بتأييد مصر وإنما بعث برسالة قوية واضحة لكل من يتدخل في شؤون مصر وعلى رأسهم القوى الكبرى، واستعاد الكثيرون الموقف التاريخي للمملكة العربية السعودية إبان حرب 1973. وقد عبر الرئيس المصري المؤقت عن كل هذه المعاني برسالة إلى العاهل السعودي أوضح فيها أن الشعب المصري استمع إلى بيان خادم الحرمين الشريفين الواضح والحازم لدعم مصر حكومة وشعباً في مواجهة الإرهاب الذي أطل بوجهه البغيض على أرض مصر، وقال الرئيس إن الأوقات العصيبة التي تشهدها الشعوب والأمم هي التي تكشف عن المعادن الحقيقية للقادة والشعوب. وجنباً إلى جنب مع الموقف السعودي واصلت الإمارات موقفها الأصيل تجاه مصر وما يجري فيها، فأعربت عن تأييدها ودعمها الكاملين لتصريح عاهل السعودية حول مصر، وأكدت أن هذا التصريح ينم عن اهتمامه والمملكة العربية السعودية بأمن واستقرار مصر وشعبها كما يأتي في لحظة محورية مهمة تستهدف وحدة مصر واستقرارها، فأكدت الإمارات أنها تقف مع المملكة العربية السعودية في دعم مصر وسيادتها وتؤكد دعم دعوة العاهل السعودي لعدم التدخل في شؤون مصر الداخلية وكذلك في موقفه الثابت والحازم ضد من يوقدون نار الفتنة ويثيرون الخراب في مصر. ويضاف إلى موقفي السعودية والإمارات مواقف البحرين والكويت والأردن والمغرب وليبيا وغيرها، ولم تتوتر العلاقة إلا مع ثلاث دول هي تونس والتي يشعر نظامها الحالي بالخطر من تداعيات التطورات في مصر عليه نظراً لقيامه على الأسس نفسها للنظام المصري المنهار خاصة وقد حدثت ردود فعل جماهيرية ضد النظام، واليمن الذي يوجد فيه فرع من فروع «الإخوان المسلمين» هو حزب الإصلاح، وقطر التي اختارت منذ البداية أن تقف في صف «الإخوان المسلمين». إن التطورات السابقة في المواقف العربية تؤسس لعلاقات عربية- عربية على أسس جديدة وراسخة، ولا أعتقد أن مصرياً واحداً سوف يسمح لنفسه بالاختلاف مع الدول العربية التي أيدت مصر في هذه الأزمة العصيبة. ومن ناحية ثانية فإننا نستطيع الآن أن نحلم بميلاد نظام عربي جديد ومتماسك يستطيع بحق أن يقف بفاعلية ضد محاولات اختراق النظام العربي، كذلك فإن مفهوم العروبة الحقيقي عاد للظهور من جديد كي يكون أساساً للنظام العربي المأمول، فرب ضارة نافعة.