في مقال الأسبوع الماضي علقتُ على كتاب ريتشارد هاس المهم: «السياسة الخارجية تبدأ في الداخل»، حيث يؤكد هاس أن الأولوية يجب أن تكون للداخل الأميركي، لأن الولايات المتحدة لن تكون قوية وقادرة على مواجهة التحديات الخارجية والأمنية إلا إذا نجحت في التعامل بنجاح مع التحديات والقضايا الداخلية الملحة والمتنوعة، وخاصة الدعائم الاقتصادية، والدَّين العام، والعجز في الميزانية، والضرائب، والبطالة، والتعليم، والهجرة، والبنى التحتية، والتعليم... وقد ختمتُ المقال السابق بالتساؤل: كيف يقرأ حلفاء وخصوم أميركا تحليل ريتشارد هاس المؤكد على أن الأولوية ينبغي أن تكون للداخل؟ وما هي تداعياته؟ وماذا يعني الغياب والتراجع الأميركي على المسرح الدولي، الذي لا يمكن تجاهله وخاصة في الشرق الأوسط؟ والحال أن العامل المشترك في جميع الحرائق المشعلة في المنطقة هو غياب القيادة والحضور الأميركي. فلا نجد دوراً واضحاً للولايات المتحدة على رغم تفاقم الأحداث في مصر، ودخولها في حرب أهلية وسط تدهور أمني بين قوى الأمن وأنصار الرئيس المعزول مرسي، بعد فض اعتصام ميداني رابعة العدوية والنهضة وسقوط مئات القتلى والجرحى، وسط مخاوف من تردي الأوضاع أكثر في أكبر بلد عربي. وكذلك تستمر الأوضاع بالتردي في سوريا في معادلة صفرية بين المعارضة والنظام الحاكم. ووقع أيضاً تفجير سيارة مفخخة في لبنان عشية ذكرى ما يسميه «حزب الله» انتصار المقاومة على العدو الإسرائيلي في حرب تموز 2006، ما ينذر بتدهور أمني سيدفع ثمنه لبنان بسبب قتال «حزب الله» مع نظام الأسد في سوريا، في استدراج للبنان إلى الصراع، وهو الحلقة الأضعف والأكثر تأثراً واستضافة للاجئين السوريين. وزيادة على هذا لا يمكن أيضاً تجاهل الغياب الأميركي عن قضايا ومشاكل وأزمات المنطقة الأهم في الاستراتيجية الأميركية، وهي المنطقة التي استنزفتها بشرياً ومالياً فيما عرف بـ«عقد الحرب» الذي شمل ولايتي بوش الابن الأولى والثانية وولاية أوباما الأولى، وما زالت تبعاته مستمرة حتى اليوم في إدارته الثانية والأخيرة، وهو الرئيس الذي لا يقدم نفسه مثل بوش على أنه «رئيس حرب»، بل كرئيس سعى ويسعى لإنهاء الحروب التي بدأها بوش، مثلما فعل في العراق وكما يسعى لتكراره في أفغانستان العام القادم.. ولكن مع ذلك لا يمكن تجاهل تراجع الثقل والتأثير الأميركي على مختلف مسارات وأزمات المنطقة. وثمة الآن أيضاً مؤشر آخر هو حالة التجرؤ على الولايات المتحدة من قبل خصومها ومناوئيها الذين يشعرون بأن هذه هي فرصتهم لاستغلال تراجع النفوذ الأميركي. وهنالك القلق المشروع من قبل حلفاء واشنطن بسبب تراجع الحضور والنفوذ والتأثير الأميركي، ما يتركهم منكشفين على التهديدات التي تجتاح المنطقة، ولسان حالهم يقول: هل يمكن التعويل على أميركا المنكفئة؟! والجميع يشهد ويتابع استفزاز وتحدي خصوم أميركا وعلى رأسهم روسيا بوتين التي تناكف واشنطن وتتجرأ حتى على استفزازها، وآخر ذلك منح اللجوء لعميل الاستخبارات الأميركي الفار أدوارد سنودن الذي أفشى أسراراً، وأظهر كيف أن واشنطن تتجسس على الملايين من شعبها، وعلى حلفائها عبر برنامج تجسس تدّعي أنه منع وقوع أكثر من خمسين عملية إرهابية ضد مصالحها. كما لا يمكننا أيضاً تجاهل استفزاز وتحدي كوريا الشمالية النووية في الربيع الماضي، وطريقة تصرف القائد الشاب المتهور «كيم جونج أون» وتهديده بتوجيه ضربات نووية للأراضي الأميركية وخاصة قاعدة «غوام» في المحيط الهندي، وضد حليفة واشنطن كوريا الجنوبية! وكذلك العناد والتحدي الإيراني لثمانية عشر عاماً من العقوبات والضغوط، وما زالت القيادة الإيرانية مستمرة في برنامجها النووي وتخصيب اليورانيوم! وكذلك يتواصل تحدي فاعلين آخرين من غير الدول، وخاصة تنظيم «القاعدة» الذي يستمر في مقارعة أميركا ومواجهتها في الشرق الأوسط، ويدفع الدولة الأقوى في العالم إلى إغلاق سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية من موريتانيا إلى بنجلاديش وأفغانستان، في مطلع أغسطس ولمدة أسبوع كامل، خشية من عمل إرهابي كبير بعد اختراق الاستخبارات الأميركية لمراسلات «القاعدة». وقد أعلنت الولايات المتحدة إغلاق 21 بعثة دبلوماسية من سفارات وقنصليات عامة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجميعها في دول عربية وإسلامية (إضافة إلى إسرائيل)، ولاحقاً تم تمديد إغلاق معظم السفارات الأميركية في المنطقة قبل أن تعود الخارجية الأميركية وتعيد فتح البعثات الدبلوماسية باستثناء صنعاء، ولاهور في باكستان، وقد أثار هذا صدمة للرأي العام الأميركي من احتمال عودة خطر تنظيم «القاعدة» للواجهة. وهذا التطور يؤكد فشل واشنطن في إزاحة شبح الإرهاب وتهديده لمصالح ومنشآت أميركا حول العالم، بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب على الإرهاب. وهذا يؤكد أن أميركا لا يمكنها النجاح في التعامل مع الإرهاب من منطلق عسكري وأمني واستخباري فقط، ولا بالطائرات بدون طيار. بل هي بحاجة لتعديل في سلوكها وسياساتها ومواقفها ودعمها اللامحدود لإسرائيل ولأنظمة شمولية تعادي شعوبها، وتجعل المشاعر المعادية لأميركا في الدول والمجتمعات العربية والإسلامية ترتفع، ما يسمح بتجنيد المزيد من المتطرفين ضدها. كما أن زيادة إنتاج النفط الأميركي وتطوير تقنية وتكنولوجيا استخراج النفط الصخري تقلص من أهمية الخليج والشرق الأوسط في سلم الاهتمامات الأميركية، بسبب الاستنزاف البشري والمادي الكبير الذي تعرضت له بلاد «العم سام» خلال العقد الماضي، وخاصة منذ 2001، بفعل حربيها في أفغانستان والعراق، وكذلك الحرب على الإرهاب. والتكلفة الكبيرة التي تكبدتها ولا تزال تتكبدها واشنطن ثمناً لتلك المغامرات وخاصة في «الحرب على الإرهاب». وإذا أضفنا إلى ذلك كله الانسحاب العسكري الأميركي من العراق في نهاية عام 2011، والتحضير للانسحاب من أفغانستان في عام 2014، أو حتى قبل ذلك حسب ما تخطط له إدارة أوباما، ودون أن تحقق الولايات المتحدة أياً من أهدافها التي وضعتها لهاتين الحربين، يكتمل المشهد الواضح عن التراجع والغياب الأميركي على المسرح الإقليمي.. ولكن هل ستسمح قضايا الشرق الأوسط بفك الارتباط معها، وتحرر واشنطن من التزاماتها الثقيلة لترفع يدها عن مشاكل المنطقة؟ وسط الكوارث والحرائق المنتشرة في أكثر من رقعة ومكان على الساحتين الإقليمية والدولية، وفي الوقت الذي يتطلع فيه الجميع لدور قيادي لواشنطن... نرى أن سمة الغياب الأميركي هي عنوان المرحلة. والجميع يريد حضوراً ودوراً لواشنطن، في سوريا والعراق، وفي الخليج، وكوريا، وجيران روسيا، وجيران الصين، وإيران، وخاصة السوريين. ومع ذلك تبقى واشنطن هي الغائب الأكبر... والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا الغياب الأميركي؟ الأميركيون يقولون إذا تدخلنا نتهم بالتدخل في شؤون الآخرين، وإذا غبنا ننتقد بأننا تراجعنا وانزوينا! وما لا يستوعبه كثيرون هو ثقل وأولوية ومكانة الشؤون الداخلية كتحديات ملحة بحاجة لمعالجة وأولوية في التعامل. وواضح أن الأولوية في واشنطن هي للقضايا والمشاكل الداخلية كما أوضحنا من قبل في مقالات عديدة هنا في «الاتحاد». وحتى خارجياً تأتي مناطق اقتصادية وجيو-استراتيجية مهمة كالصين وشرق آسيا على رأس سلم أولويات واشنطن. ويبقى أخيراً السؤال: هل يمكن التعويل على واشنطن، وخاصة من قبل حلفائها القلقين من الموقف الأميركي، ومن رفع اليد والتراجع عن لعب دور قيادي، ما يشجع الآخرين على التحدي والتهديد؟! لقد كثر الحديث مؤخراً عن عولمة الأمن الخليجي ودخول لاعبين جدد من آسيا على الساحة الخليجية! هل ذلك ممكن، وكيف يتم التعامل مع هذا الواقع الجديد؟ وماذا يعني للمنطقة وللولايات المتحدة ولعمالقة آسيا؟ لهذا مقال قادم، إن شاء الله.