دبلوماسي أميركي سابق متخصص في قضايا الشرق الأوسط قرر أوباما إلغاء خطة زيارة كان يعتزم القيام بها إلى موسكو الشهر المقبل للقاء نظيره الروسي بوتين. وفي مؤتمر صحفي نظم يوم الجمعة قبل الماضي، عمد أوباما إلى تفسير سبب هذا القرار فقال: «كنت أعتقد جازماً أن في وسعنا أن نحقق بعض التقدم في قضايا متنوعة تشغل بالنا، إلا أن روسيا لم تتحرك في هذا الاتجاه». وأضاف: «لقد شجعت بوتين على أن يفكر في التقدم إلى الأمام بدلاً من العودة للوراء عند التعرض لبعض القضايا التي سبق لنا أن حققنا فيها نجاحاً متفاوتاً». فما الذي قصده أوباما من هذا الكلام؟ وما هي القضايا التي يتحدث عنها؟ عندما بدأت إدارة أوباما عهدها عام 2009، أعلنت بأن من أولويات خططها السياسية «إعادة» العلاقات مع روسيا. وتم بالفعل إحراز بعض التقدم في بداية الأمر. ففي عام 2010، وقعت الدولتان على «الاتفاقية الجديدة لتخفيض الأسلحة الاستراتيجية»، التي تقضي بتفكيك 30 في المئة من الرؤوس النووية المنشورة على الأرض. وفي العام ذاته، وافقت روسيا على مشروع قرار في الأمم المتحدة بفرض عقوبات ضد إيران، وهو ما كانت تسعى إليه الولايات المتحدة. وحدث أكثر من ذلك أيضاً حين بدا وكأن البلدين يحققان بعض التقدم في قضايا أخرى مثل التجارة المشتركة والاستثمارات والدفاع الصاروخي. والذي حدث بعد ذلك هو أن هذا التطور في العلاقات سجّل تباطؤاً ملحوظاً خلال الأشهر التسعة الأولى من عودة بوتين إلى سُدّة الرئاسة. وأوقفت روسيا التخفيضات الإضافية في الأسلحة الاستراتيجية التي كانت تطالب بها واشنطن، ورفضت المشاركة في فرض عقوبات إضافية على إيران والتي دعت إليها الإدارة الأميركية، وتوقفت المفاوضات المتعلقة بتحرير التجارة والاستثمارات بين البلدين. وواصلت موسكو شحن الأسلحة المتطورة إلى دمشق لدعم بشار سياسياً بالرغم من اعتراضات واشنطن. ثم عمدت إلى منح حق اللجوء السياسي للأميركي «إدوارد سنودن» بالرغم من طلب الولايات المتحدة إعادة تسليمه لها لأنه خرق القوانين الأميركية. وفي هذه الأثناء، حدثت مواجهة خطيرة بين واشنطن وموسكو حول الموقف من الأوضاع في سوريا. ومنذ بداية اندلاع الثورة السورية عام 2011، سارعت موسكو لدعم بشار الأسد سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً في وقت كانت واشنطن تطالبه بتسليم السلطة. وسرعان ما أصبحت القضية السورية تمثل جوهر الخلاف بين واشنطن وموسكو. وباتت سوريا العقبة الكبرى التي تقف أمام تحسين العلاقات الأميركية- الروسية. ومنذ صيف عام 2011، عمدت إدارة أوباما إلى استخدام كل الوسائل غير العسكرية المتاحة لإقناع بشار بتسليم السلطة ولكنه رفض. وتزايدت النقمة الشعبية عليه من شعبه، وقُتل الألوف من المدنيين السوريين الأبرياء على أيدي عساكره. وعملت الولايات المتحدة مع أصدقائها وحلفائها في الخليج وفي أماكن أخرى من العالم لدعم المعارضة السورية، وبذل المسؤولون الأميركيون جهوداً صادقة لإقناع روسيا بأن تكون إيجابية في التعاون لوضع حدّ للحرب الأهلية المؤلمة الدائرة في سوريا. وسارع السياسيون في دول الخليج وأوروبا إلى مناشدة روسيا للمساعدة في الوصول لحل للأزمة السورية، إلا أن موسكو زادت من دعمها لبشار. وأدى ذلك إلى بروز أصوات أميركية ناقدة لأوباما تدعوه إلى إرسال حملة عسكرية عاجلة إلى سوريا أو تنفيذ ضربة جوية، إلا أنه تردّد في اتخاذ مثل هذه الخطوة، لأن موسكو أظهرت تأييداً قوياً لبشار ولم يكن أوباما يريد أن يتورط في حرب مع روسيا. وواصلت روسيا إرسال كميات ضخمة من الأسلحة الفتاكة لسوريا، والتي استخدمت بعنف ضد المعارضة. واستمدت الحكومة السورية بعد ذلك قوة جديدة بتدخل مقاتلين من «حزب الله» مدعومين من إيران. وخلال هذا الصيف، بدا بشار أقوى من أي وقت مضى، وقال أوباما في مؤتمره الصحفي الذي نظمه يوم الجمعة الماضي، إن سوريا تمثل نقطة خلافية مركزية بين واشنطن وموسكو، وأكد أن سوريا ستبقى على رأس الأجندة السياسية للولايات المتحدة. وبدا وكأن لموسكو عدة مبررات لدعم نظام دمشق بقوة. فمن الناحية العسكرية، إذا سقط بشار فإنها تخشى أن تفقد سوقاً نشيطة لبيع السلاح بالإضافة لقاعدتها البحرية في طرطوس، وهي الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط. ومن الناحية السياسية، تتخوف موسكو من أن يحمل الحكم البديل لنظام الأسد طابعاً عدائياً لموسكو. وهي ترى في الأزمة التي مرت بها ليبيا عام 2012 سابقة سيئة لأن دعم روسيا لمشروع القرار الذي طرح على الأمم المتحدة أدى إلى إطلاق حملة تدخل عسكري ناجحة للدول الغربية والقوات العربية في ليبيا. ولا تريد موسكو أن يتكرر هذا الخطأ مرة ثانية، وكان الدرس الذي تعلمته موسكو من الأزمة الليبية يتلخص بالخطة التالية: الوقوف ضد أي قرار أممي للتدخل في سوريا، ورفض التعاون مع الأمم المتحدة والغرب ودول الخليج في هذا الشأن. ولقد سبب الموقف الروسي من سوريا إزعاجاً كبيراً للرئيس الأميركي، وعانى أوباما بشدّة من تصوّره للآلام التي يتعرض لها الأبرياء المدنيون في سوريا. وفاق عدد الضحايا السوريين أكثر من مئة ألف وأصبح أكثر من مليون منهم لاجئين في الدول المجاورة، وتعرض الكثير منهم للترحيل القسري عن بيوتهم. ووجه أوباما اللوم لروسيا على معارضتها للحل السلمي للصراع فيما كان يعتقد بأن عليه أن يواصل العمل عبر القنوات الدبلوماسية المباشرة وغير المباشرة في محاولة لثني موسكو عن موقفها المتصلّب. وعلى أن إلغاء أوباما للاجتماع مع بوتين لا يمثل بأي حال قطعاً كاملاً للعلاقات الثنائية بين البلدين، بل إن الاتصال بينهما استمر على مستويات مختلفة. ويوم الجمعة قبل الماضي، جمع لقاء مهم بين كيري ووزير الدفاع الأميركي من جهة، ونظيريهما الروسيين من جهة أخرى، للتباحث حول تفاصيل قضايا مهمة أخرى. وجاء في أحد التقارير إن سوريا كانت على رأس المواضيع التي تم استعراضها. وخلال المؤتمر الصحفي الذي نظم الجمعة الماضي، سُئل أوباما عما إذا كان قراره بإلغاء اللقاء مع بوتين يعبّر عن «علاقة شخصية متردّية مع الرئيس الروسي»، فأجاب: «كلا ليست هذه هي المشكلة». إلا أنه علق بعد ذلك على الموقف الذي يتخذه من بوتين من خلال استرقاق النظر إلى الصور التي التقطت أثناء اجتماعهما الأخير، وقال: «بدا لي بوتين في صورة الإنسان الأخرق وكأنه صبي بليد يجلس في المقعد الأخير من غرفة الصف». ولا شك أن هذا التوصيف الشخصي لرئيس دولة أجنبية عظمى والصادر عن رئيس الولايات المتحدة، لم يكن أمراً عادياً. إلا أن أوباما كان يحاول أن يقنع نفسه ببساطة بأن لا يحكم على العلاقات مع بوتين مرة أخرى من خلال الصور التذكارية. وفيما لو أعاد بوتين النظر في مواقفه إذا حدث اللقاء بينهما في سان بطرسبرغ أم لا، فإن أوباما يأمل على أقل تقدير أن يحظى منه بموقف جديد من شأنه أن يساعد على حلّ المشكلة السورية والعديد من القضايا العالقة الأخرى.