لم يعد الحديث عن تراجع مكانة الغرب، على المستوى الدولي، أو حتى تهميشه إذا استخدمنا أكثر العبارات تشاؤماً، وربما تداولاً، مجرد كلام عارض يطلقه بعض منتقدي النظام الرأسمالي الغربي، أو يردده بعض الساخطين اليساريين على فكرة المركزية الغربية الاقتصادية والذهنية التي يستبطنها الأوروبيون منذ زمن بعيد، بل إن هذا الحديث المثير أصبح يجتذب إليه الآن أيضاً بعض أكثر المؤلفين والكتاب الغربيين رصانة، وهم يرون كل هذا التراجع والتدافع في المشهد الدولي الراهن، حيث تتآكل معدلات حضور الاقتصادات الغربية، مع ما يترتب على ذلك استطراداً من ضمور تأثير عواصم الغرب نفسها في تسيير المشهد السياسي الدولي في عمومه، ترافقاً مع صعود الاقتصادات الآسيوية، واقتصادات الدول البازغة، واقتطاعها في المقابل مكانة وحضوراً متناميين على المسرح الدولي. وضمن هذا النوع من الكتب الأكاديمية الجادة جاء كتاب المؤلف الفرنسي جيرار شاليان الأخير: «نحو نظام عالمي جديد»، ليعيد رسم ملامح عالم اليوم بكل تناقضاته الدولية وتعارضاته الجيوستراتيجية، مبرزاً بشكل خاص مختلف مظاهر «سقوط الغرب»، إن كان لنا أن نستخدم هنا عنوان كتاب شهير لفيلسوف التاريخ أسوالد شبنجلر. ولاشك أن مما يزيد من قيمة هذا الكتاب أن مؤلفه مؤرخ وشاعر ومترجم وخبير استراتيجي ذو مؤلفات ذائعة تزيد على عشرين من أشهرها «مختارات استراتيجية عالمية» 1990، و«سَفر عبر أربعين سنة من حرب العصابات» 2006، و«الحروب غير النظامية» 2008، كما عمل أيضاً مستشاراً بمركز التحليلات والتوقعات بوزارة الخارجية الفرنسية منذ سنة 1984. ويؤكد «شاليان» ابتداءً أن ظاهرة تراجع مكانة الغرب لم تعد محل جدال، ففي واقع تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، متزامنة مع الصعود الديناميكي الآسيوي الباهر، بات العناد في نكران هذا وجود التراجع مجرد تضييع وقت، بل ضرباً من العبث. ومع تعاظم حضور الصين خاصة في الاقتصاد العالمي وفي توازنات القوى الدولية، وتحولها إلى ثاني اقتصاد عالمي، وتوقع أن تصبح في المرتبة الأولى عالمياً في الأفق المنظور، تبدو مركزية المنظومة الغربية في النظام الدولي قيد التلاشي، أو على الأقل على غير ما يرام، بل لعلها برسم الإحالة على الموقد الخلفي، ضمن نظام عالمي جديد بديل. وما نشاهده الآن من تغيرات متسارعة هو أعراض مخاض هذا التحول، ومجرد مظاهر لعملية إعادة تفكيك وتركيب أوسع للنظام الدولي على أسس جديدة. وبين دفتي كتابه الواقع في 192 صفحة يحاول الكاتب البرهنة على فرضية عمل مختلفة عما هو شائع من أن نظامنا الدولي الراهن بدأ مع نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين بحلول التسعينيات مع كل ما تلا ذلك من سقوط المعسكر الشيوعي السابق، وانهيار الثنائية القطبية، لتبدأ رأساً مرحلة النظام الدولي أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة. وهنا يؤكد «شاليان» أن بدايات النظام الدولي الراهن تعود على الأرجح إلى سنة 1979 التي تمت فيها تصفية تركة الاستعمار تقريباً بشكل نهائي، وبدأ العد التنازلي لسقوط المعسكر الشيوعي، وشهدت كذلك اندلاع الثورة الإيرانية مع كل ما ترتب عليها تالياً من تطورات وصراعات في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، ولعل هذا أبلغ تأثيراً على المسرح الدولي، شهدت تلك السنة ذاتها أيضاً بداية إصلاحات «دينج زياوبينج» في الصين. واليوم نجد آثار كل تلك الأحداث وتداعياتها ماثلة في الصدع الجيوبوليتيكي الدولي الراهن، وهو صدع يفاقمه تحولان دوليان عارمان مهمان: التغير الواسع في البنية الديموغرافية العالمية، حيث لا يكف الغرب عن الشيخوخة والضمور سكانياً، مقارنة مع بقية مناطق المعمورة الأخرى، والأزمة المالية والاقتصادية المعولمة الآن التي تضرب دون رحمة ما تبقى من قوة اقتصادية غربية، مفسحة بذلك المجال أمام القوى الاقتصادية البازغة لتصدر المشهد، وهي في واقع الأمر قوى تعود للبزوغ في معظمها، بحسب رأي الكاتب. وفي سياق تحليله يفرد المؤلف كل منطقة من العالم بتحليلات لواقعها وأدوارها المستقبلية المتوقعة منطلقاً في دراسة حالات معينة كالولايات المتحدة، وأوروبا، والصين، والهند، وتركيا، والشرق الأوسط.. الخ. مبرزاً عناصر الضعف وعوامل القوة لدى كل منها، على نحو يسمح باستشراف أدواره المستقبلية في النظام الدولي المقبل، مع تركيز مفهوم على مصير أوروبا خاصة، ودورها المتوقع في عالم غد شديد التعقيد، قد لا تكون استعدت له أصلاً بالكيفية المناسبة. حسن ولد المختار ------ الكتاب: نحو نظام عالمي جديد المؤلف: جيرار شاليان الناشر: سوي تاريخ النشر: 2013