لا يكاد يختف خبراء الاقتصاد كثيراً عندما يتعلق الأمر ببعض الحقائق الثابتة من قبيل أن تصاعد المساهمة الفردية في الناتج الإجمالي تضمن تحسن الظروف المعيشية للناس، وأن نمو هذه المساهمة مشروط بدرجة الإبداع والابتكار في المجتمع، وهو ما ينعكس بدوره على الازدهار الذي يعم شرائح أوسع. لكن عدا هذه الحقائق المتوافق حولها تتباين تفسيرات الاقتصاديين فيما يتصل بالعوامل التي تحرك الإبداع وتشجع عليه، هل الشركات والأفراد، أم القطاع الخاص، كما استقر في الوعي الجمعي للناس، أم أن الدولة تضطلع بدور مهم في هذا المجال؟ هذا السؤال المحوري في عالمنا اليوم الذي كثر فيه الجدل عن دور الدولة بين مرحب ومتبرم، تجيب عنه مارينا مازوكاتو، أستاذة الاقتصاد بجامعة «ساسكس» البريطانية في كتابها «الدولة المبادرة... دحض أسطورة القطاعين العام والخاص»، حيث يبدو أن العنوان نفسه يحمل في طياته إشارة قوية للاتجاه الذي تتبناه الكاتبة، فهي تسعى لقلب الفكرة الشائعة والتي تحصر الإبداع والابتكار والمبادرة الحرة في القطاع الخاص والشركات، وتضعها في مقابل بيرقراطية الدولة التي تصور غالباً على أنها تعرقل المبادرة الحرة وتقف حائلا دونها. لكن ما تورده الكاتبة من حقائق يغير هذه الصورة ويقلبها رأساً على عقب، فمثلا «أنتجت المختبرات العلمية التابعة للمؤسسة الوطنية للصحة في الولايات المتحدة، والتي تتلقى تمويلها من خزينة الدولة، 75 في المئة من المواد والجزيئات التي أجازتها وكالة الغذاء والعقاقير في الفترة بين 1993 و2004»، وبنفس الطريقة أيضاً عمل مجلس الأبحاث الطبي في بريطانيا المسؤول عن اكتشاف عدد من المضادات الحيوية المستخدمة حالياً في التكنولوجيا الحيوية. وتبقى النماذج الأهم للدور الأساسي الذي تضطلع به الدولة في الدفع بحركة الإبداع والابتكار، هي تلك المرتبطة بتكنولوجيا الاتصالات، فقد كانت مؤسسة العلوم الوطنية في أميركا التابعة للحكومة الفدرالية هي من اكتشف اللوغاريتمات التي يستخدما محرك البحث «جوجل»، كما أن التمويل الأولي لشركة «آبل» جاء من الحكومة الأميركية عبر مبادرة دعم الشركات المتوسطة. وأكثر من ذلك فإن «التكنولوجيا التي تجعل من الهواتف المحمولة ذكية، بالإضافة إلى الإنترنت، وشبكات الربط اللاسلكية، ونظام التموقع العالمي، والشرائح الإلكترونية الدقيقة، وتقنية اللمس المستخدمة في شاشات الهواتف... كلها ترجع إلى أبحاث علمية أشرفت عليها مؤسسات تابعة للحكومة». ومع أن شركات خاصة مثل «آبل» تعاملت مع تلك المنجزات العلمية بذكاء وأدمجتها في منتج واحد، فإنها في النهاية استفادت من سبعة عقود من عملية التطوير المدعومة من الدولة. لكن لماذا، رغم كل هذا الترويج والإطراء الذين يتم إغداقهما على القطاع الخاص، يظل دور الدولة محورياً؟ ترى الكاتبة أن الجواب يكمن في أجواء عدم اليقين والفترات الزمنية الطويلة، علاوة على الكلفة الباهظة المرتبطة بالإنجازات التقنية والعلمية والتي لا تستطيع الشركات مواكبتها ولا تحمل كلفتها، كما أن المبادرة والاستثمار في تطوير الأبحاث العلمية وابتكار الإنجازات التقنية ليست مجازفة محسومة النتائج ولا يمكن انتظار مردودها على المدى القريب، وهو ما لا يقوى القطاع الخاص على تحمله. ولعل ما يعقد الوضع أكثر على القطاع الخاص في مجال الابتكار والإبداع هو طبيعته الحالية بعد التحولات التي شهدها في العقود الأخيرة، حيث بات قائماً بالأساس على الاستثمار المالي وعلى المنافسة الشديدة المرتكزة على تحقيق الأرباح الآنية. لذا تبقى الدولة في رأي الكاتبة المحرك الأول للابتكار في المجال العلمي وتظل المبادرات الاستراتيجية الكبرى من اختصاص الحكومة، لتأتي بعدها الشركات وتستفيد من المكتسبات، وهو ما يتضح في الدور الكبير الذي لعبته وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأميركية على مدى العقود الخمسة الماضية، وإسهامها في ابتداع عدد من الابتكارات المهمة مثل الإنترنيت، وما زال هذا الدور قائماً ومستمراً، إذ تصر الكاتبة أنه لو أراد العالم تحقيق فتوحات علمية مهمة في تكنولوجيا الطاقة فلا مناص من استثمارات الدولة، بل إن الحكومة الأميركية ساهمت فعلا في تطوير تقنية التكسير الهيدروليكي المستخدمة في استخراج النفط الصخري. والأمر هنا، توضح الكاتبة، لا يقتصر على دعم الأبحاث العلمية وتمويلها والتي عادة ما تكون وراء التقنيات الرائدة التي تعتمد عليها شركات مثل «آبل» و«جوجل» وغيرها، بل تأخذ بيدها زمام المبادرة من خلال ضخ الاستثمارات ومواجهة احتمالات التعثر والفشل. لذلك، وبدلا من تحميل الدولة مسؤولية تعطيل الإبداع ومطالبتها بعدم التدخل، يتعين، تقول الكاتبة، تشجيع انخراطها في مجال التطوير والأبحاث، لأنه بتقاعسها عن ذلك تكون الإنسانية قد فقدت إحدى محركات المبادرة والإبداع المهمة التي كانت وراء ازدهار المجتمعات المعاصرة. زهير الكساب ------- الكتاب: الدولة المبادرة: دحض أسطورة القطاعين العام والخاص المؤلفة: مارينا مازوكاتو الناشر: أنثيم بريس تاريخ النشر: 2013