هناك حكاية شهيرة موزعة بالتساوي على التراجم التي كتبت عن طه حسين ومحمد مندور، حدثت ذات يوم بين أروقة كلية الآداب، بجامعة القاهرة، وصارت إحدى العلامات البارزة في تاريخ العلاقة بين الأستاذ وتلميذه. فمندور كان طالباً بكلية الحقوق، لكن شوقه الجارف إلى المعرفة دفعه إلى مدرجات كلية الآداب، فجلس بين طلابها مستمعاً إلى أساتذتها، وفي مطلعهم عميد الأدب العربي، الذي لفت انتباهه وشد سمعه صوت طالب يتحدث في الأدب بطلاقة واقتدار، فلما قربه إليه، عرف أنه ليس منتمياً رسمياً إلى الآداب، وإنما إلى جارتها الحقوق. لكن الأستاذ اكتشف أن المكان الطبيعي لتلميذه هو هنا بين دارسي البيان، وليس هناك بين دارسي البرهان، فبذل كل جهد مستطاع كي يطابق بين هواية مندور ووضعه الرسمي، فنقله إلى الآداب، وساعده وعلمه ورشحه لبعثة خارجية، تعثر في مطلعها، ثم اجتهد في نهايتها فأصاب ما يريد، وعاد ناقداً أدبياً بارزاً، لا ينساه أصحاب النصوص العامرة بالبلاغة والمعاني. وهذه الحكاية لم تعد تتكرر إلا نادراً، فأغلب الأساتذة لم يعودوا مهتمين بأحوال التلاميذ، ولا هؤلاء احتفظوا جميعاً بتقدير من علموهم أكثر من حرف. ومع تتابع الزمن، وفساد في العملية التعليمية لم نعد نسمع عن أساتذة بقامة المؤرخ الكبير شفيق غربال الذي كان كلما سأله الناس عن كتبه، أشار إلى تلاميذه وقال: «كل واحد من هؤلاء كتاب لي». وفي المقابل لم نعد نعرف تلاميذ على شاكلة هؤلاء الذين تحلقوا حول غربال يسمعون منه حكايات الأمم ومساراتها، وحملوا اسمه في المنتديات والندوات، فلا تمر إحداها إلا ونجد أحد هؤلاء يقف ويتحدث بعبارات من قبيل «هكذا علمنا أستاذنا شفيق غربال». وتعدت حالة رشيد رضا مع أستاذه محمد عبده مجرد الاستشهاد بالأقوال المأثورة والعبارات المؤثرة، إلى مستوى سعي التلميذ لجمع مشروع الأستاذ أولاً، ومحاولة استكماله ثانياً. فرشيد رضا بذل جهداً كبيراً في لم شمل ما تناثر من كتابات عبده ومداخلاته المكتوبة وفتاواه المسجلة، ولولا هذا الجهد لضاع بعض ما أنتجته قريحة المجدد الكبير في متاهات الجرائد والمجلات، وأضابير دار الإفتاء. ولم يقف رضا عند هذا الحد بل سعى إلى استكمال مشروع أستاذه، فعبده انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يتم تفسير القرآن الكريم، فاستدعى رضا ما خطه عبده، وثبته وبدأ يضيف إليه بقدر ما أسعفته إمكانياته، ليطلق على هذا كله «تفسير المنار». وتكرر نصف هذا الأمر مع تلاميذ عالم السياسة الكبير حامد ربيع، الذي شغل حياته العلمية والفكرية في تتبع العلاقة بين الظاهرة السياسية والأنساق الدينية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية والنفسية، فأنتج كتباً عميقة ومتنوعة وعابرة للمعارف، وإن كان مبتدؤها وخبرها يدور حول علم السياسة. فربيع لم يكن مهتماً بإخراج كتبه على نحو يليق بما حوته، فجاء تلاميذه ليخرجوها إلى الباحثين والكتاب والمهتمين في إطار مشروع «نشر تراث الرواد» الذي تبناه قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد، جامعة القاهرة، حين كان يرأسه الدكتور حسن نافعة. وتم توزيع كتب ربيع على محاور، تولى إخراجها تلاميذه، الذين يحتفظون له بمودة خالصة وعرفان لا يخالطه شك، ومن بينهم الدكاترة سيف الدين عبدالفتاح، وحمدي عبدالرحمن، وحامد عبدالماجد القويسي. ولم يكن تلاميذ عبدالوهاب المسيري استثناء من هذا، فمن تعلموا على يديه، واقتربوا منه، وشاركوه مشاريعه الفكرية الكبيرة لاسيما موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» ومشروع «التحيز المعرفي» لا يزالون يمجدون إنتاجه المعرفي الفارق، ويمدحون أستاذيته التي انطوت على البساطة الآسرة، والعلم الغزير، والاستئناس الأسرى الدافئ، والآمال العريضة. ولم ينبع هذا الاهتمام من فراغ، فالرجل كان مؤسسة تمشى على الأرض، لتضم بين أجنحتها عشرات من تلاميذ محبين للمعرفة، مؤمنين بالأفكار التي وهب لها المسيري نفسه وعقله، وفتح باب بيته ليستقبل في أي وقت كل من يروم اشتباكاً مع أفكاره العميقة. لقد عرفت الإنسانية في تاريخها المديد صوراً ناصعة لعلاقة التلميذ بأستاذه، قدمها لنا أفلاطون تلميذ سقراط، وأرسطو تلميذ أفلاطون، ورسمتها لنا التلمذة المتعاقبة لأعلام الفقه الإسلامي، مالك، وأبو حنيفة، وابن حنبل، والشافعي. وتوزعت التلمذة طيلة التاريخ بين رافدين، الأول يقوم على علاقة الوجه للوجه، حين يلتقي التلميذ أستاذه في رواق أو مدرسة أو مكتبة، والثاني ينبني على من تعلموا على كتب أساتذة لم يقابلوهم أبداً، وفي هذه النقطة نجد أساتذة لمن انشغلوا بالعلم وفروعه في أرجاء الأرض، ونلفى صدقات جارية لا تنقطع تجود بها المطابع في كل مكان، فيتربى تلاميذ على سطور أساتذة، ويحصد أساتذة ثمار جهدهم المستفيض. وقد تكبر الأستاذية فتصير أعلى قامة وقيمة من شخص واحد، أو معلم منفرد، أو أستاذ وحيد، لنجد مدرسة فكرية متكاملة، مثل «مدرسة فرانكفورت» و«مدرسة براغ» ومدرسة دمياط التي حملت العلم قبل وصول الحملة الفرنسية إلى مصر، ومدرسة الإسكندرية القديمة. وقد تتسع وتكبر مرة أخرى لتصبح حضارة كاملة، بعض نما وساد وازدهر، وألقى بظله الوارف على كل ما حوله من البلاد، فنقلت عنه ما وسعها. وهكذا تتلمذت الحضارة الإغريقية على الحضارة الفرعونية، وتتلمذت الحضارة الرومانية على الإغريقية، ونقلت الحضارة الإسلامية عن الاثنتين، ومعهما الحضارة الفارسية والهندية والصينية، فأضافت لبنة قوية في مسيرة المعرفة الإنسانية، بنت عليها الحضارة الغربية مداميك علمها وثقافتها. لقد امتدت مشاهد الأستاذية والتلمذة دونما انقطاع، وزادت مع اتساع حواضر التعليم ومؤسساته، ولكنها راحت تتراجع في بلادنا حالياً مستسلمة ليد الفساد التي لطمت كل جوانب الحياة، ويد الضيق التي جعلت الأستاذ منشغلاً بما يقيم أوده ويحفظ ذويه من الفاقة، أكثر من انشغاله بما يصقل أذهان تلاميذ يسعون وراءه بحثاً عن المعرفة.