تروي الكاتبة الأميركية غريس هالسل (كانت تكتب الخطاب السياسي للرئيس الأسبق ليندون جونسون) في كتابها «النبوءة والسياسة» قصة زيارتها لمدينة الناصرة الفلسطينية مع وفد من المسيحيين الأميركيين كانوا يقومون بجولة على المواقع المسيحية المقدسة في إسرائيل. تقول هالسل: «قبل وصولنا إلى الناصرة، أعلن دليلنا الإسرائيلي أننا لن نتوقف في هذه المدينة. لم يسأل أحد من المجموعة عن سبب هذا القرار، وعن سبب الامتناع عن زيارة المدينة التي قضى المسيح فيها كل سنوات عمره من 12 إلى 30. غير أن الدليل عاد وغيّر رأيه وأبلغنا أننا سنتوقف في الناصرة لمدة عشرين دقيقة. وبرر هذا التوقف من أجل دخول المراحيض. وما إن توقفت السيارة حتى توجه كل منا إلى دكان لاستعمال المرحاض. وبعد عشرين دقيقة انطلقت السيارة بنا ثانية من دون أن نرى المدينة، لقد حاولت أن أتصور بوذياً يذهب إلى معبد بوذا في كماكورا في طوكيو». في الشهر الماضي قام الرئيس الجديد لأساقفة الكنيسة الإنجليكانية (البريطانية) جاستن ويلبي بجولة رسمية شملت كلاً من مصر والأردن وإسرائيل والدولة الفلسطينية. وفي داخل الأرض المحتلة نظم الإسرائيليون برنامج زيارته؛ واستبعدوا من هذا البرنامج مدينتي الناصرة وبيت لحم. وتوجد في مدينة الناصرة كنيسة البشارة التي بنيت في الموقع الذي يعتقد أن السيدة مريم عليها السلام تلقت البشارة الإلهية بأنها تحمل في أحشائها المسيح وهي عذراء. ومن أجل ذلك تعتبر الكنيسة واحداً من أهم المواقع المقدسة لدى المسيحيين. ولذلك كان غريباً أن تحذف من برنامج زيارة رئيس الأساقفة! وكذلك فإن مدينة بيت لحم التي توجد فيها كنيسة المهد أحد أهم معالم المسيحية وأصولها ورموزها الدينية، والتي شهدت فصولاً من حياة المسيح ومواقع تاريخية مهمة في الدعوة المسيحية، أبعدت أيضاً عن برنامج زيارة رئيس الأساقفة. وكان من الطبيعي أن يثير ذلك استغراب المسيحيين الفلسطينيين، ليس على السلوك الإسرائيلي، ولكن على قبول رئيس الأساقفة بهذا السلوك. ومن المعروف أن مدينتي بيت لحم والناصرة حافظتا على هويتهما العربية على رغم الاحتلال الإسرائيلي. ومن المعروف أيضاً أن إسرائيل تحرص دائماً على تجنيب ضيوفها الأجانب، سياسيين كانوا أو رجال دين، أي اتصال مع الفلسطينيين العرب وخاصة المسيحيين منهم. وما ذكرته الكاتبة الأميركية «هالسل» كان من المؤشرات على ذلك. وتقول الكاتبة في روايتها إنه عندما حان وقت الصلاة يوم الأحد، لم يسمح للوفد بالتوجه إلى الكنيسة على رغم كثرة الكنائس في القدس حتى لا يتواصل الوفد المسيحي الأميركي مع المسيحيين الفلسطينيين. وذكرت في روايتها أن أعضاء المجموعة حُملوا على أداء الصلاة في إحدى قاعات الفندق الذي نزلوا فيه. ومع وجود طائفة إنجليكانية من المسيحيين العرب في إسرائيل وفي الضفة الغربية، وعلى رغم الدور الوطني الذي تلعبه هذه الطائفة في الأرض المحتلة مع سائر الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية الأخرى، وعلى رغم البيان الكنسي المشترك -وقفة حق- الذي صدر عن هذه الكنائس مجتمعة ضد الاحتلال الإسرائيلي باعتباره مناقضاً للعقيدة المسيحية، فإن جاستن ويلبي خضع للبرنامج الإسرائيلي خلافاً لما فعله سلفه رئيس الأساقفة السابق روان ويليامس عندما أدى زيارة مماثلة في عام 2006. كان يرافق ويليامس في زيارته تلك الكاردينال كورماك أوكونور رئيس أساقفة نيويورك. وقد لاحظ رجلا الدين المسيحي الإنجليكاني والكاثوليكي وحشية الحصار الإسرائيلي المفروض على المدن المسيحية الفلسطينية، وخاصة على بيت لحم المفصولة عن القدس بسلسلة من الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش الابتزازي. ولاحظ الرجلان ما يتعرض له المواطن الفلسطيني من انتهاك لكرامته ومن اعتداء على حريته على هذه الحواجز. ولما عاد ويليامس إلى لندن لم يستطع ضميرياً أن يسكت على ما شهده وعلى ما عاناه بنفسه، فكتب مقالاً نشرته صحيفة «التايمز» اللندنية انتقد فيه هذه الإجراءات الإسرائيلية التي تستهدف ليس فقط الإنسان المسيحي الفلسطيني، بل كل إنسان. ودعا في مقالته المسيحيين إلى الصلاة من أجل أن يتجاوز إخوتهم المسيحيون العرب المأساة التي يواجهونها تحت الاحتلال الإسرائيلي. وقد ذهب ويليامس إلى أبعد من ذلك، فحمّل بلاده -بريطانيا- مسؤولية «الجهل وقصر النظر» في ما آلت إليه أوضاع المسيحيين الفلسطينيين. ودعا إلى عدم تجاهل المأساة التي يعانون منها. وعندما أعرب المسيحيون الفلسطينيون عن ألمهم لسكوت رئيس الأساقفة الإنجليكاني الجديد «ويلبي» باستسلامه للبرنامج الإسرائيلي الذي استبعد الاتصال بهم وتفقد مواقعهم الدينية في الناصرة وبيت لحم، تجاوبت صحيفة «التايمز» مع هذه المشاعر ونشرت مقالاً ذكـّرت فيه بموقف سلفه ويليامس. ووصفت الجريدة زيارة «ويلبي» بأنها «استفزت المسيحيين الفلسطينيين وأثارت غضبهم.. عن حق». كانت الكنيسة الإنجليكانية الفلسطينية واحدة من الكنائس الفلسطينية التي وقعت على وثيقة «وقفة حق». وتقول هذه الوثيقة التي تُعرف باسمها اللاتيني «كايروس»: «إن استخدام الكتاب المقدس، لتبرير أو تأييد خيارات ومواقف سياسية فيها ظلم يفرضه إنسان على إنسان أو شعب على شعب آخر، يحوّل الدين إلى إيديولوجية بشرية ويجرّد كلمة الله من قداستها وشموليتها وحقيقتها... ولهذا نقول أيضاً إن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية هو خطيئة ضد الله وضد الإنسان لأنه يحرم الإنسان الفلسطيني حقوقه الإنسانية الأساسية التي منحه إياها الله.. ونقول إن أي لاهوت يدعي الاستناد إلى الكتاب المقدس أو العقيدة أو التاريخ ليبرر الاحتلال إنما هو بعيد عن تعاليم الكنيسة، لأنه يدعو إلى العنف والحرب المقدسة باسم الله، ويُخضع الدين لمصالح بشرية آنية، ويشوّه صورته في الإنسان الواقع في الوقت نفسه تحت ظلم سياسي وظلم لاهوتي». لقد كانت زيارة رئيس أساقفة كانتربري إلى إسرائيل وأراضي الدولة الفلسطينية مناسبة لرفع الصوت ضد هذا «الظلم السياسي واللاهوتي». وذلك باعتبار أن الكنيسة الإنجليكانية هي كنيسة الدولة البريطانية. وباعتبار أن بريطانيا مسؤولة معنوياً وتاريخياً عن الكارثة التي حلت بالفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين معاً. ولكن زيارة جاستن ويلبي جاءت مخيبة لآمال المسيحيين الفلسطينيين. ولقد عبرت السلطة الفلسطينية بلسان أحد أركانها من مسيحيي بيت لحم عن الاستياء الشديد «لأن الزيارة وضعت المسيحيين الفلسطينيين خارج إطار اهتمامات الزائر المسيحي البريطاني الأول!». وإذا كان هذا الأمر قد أساء إلى المسيحيين، فقد أساء أيضاً إلى الكنيسة الإنجليكانية الفلسطينية التي تلعب دوراً رائداً في الحركة الوطنية المسيحية. لقد وضعت «كايروس» وثيقة «وقفة حق» الإصبع على الجرح عندما قالت: «إن وجودنا، نحن الفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، على هذه الأرض ليس طارئاً، بل له جذور متأصلة ومرتبطة بتاريخ وجغرافية هذه الأرض، مثل ارتباط أي شعب بأرضه التي يوجد فيها اليوم. وقد وقع في حقنا ظلم لمّا هُجرنا. أراد الغرب أن يعوّض عما اقترف هو في حق اليهود في بلاد أوروبا، فقام بالتعويض على حسابنا وفي أرضنا. حاول تصحيح الظلم فنتج عنه ظلم جديد». ولكن «على من تقرأ مزاميرك يا داود»؟