إذا كان الأمر لرابعة العدوية في ميدانها في القاهرة، فطريق «الربيع العربي» في مصر مفروش بالحب. فهذه المتعبدة الصوفية التي ولدت في البصرة بالعراق وتوفيت في القدس بفلسطين، ذهبت بالحب إلى أبعد مراميه حين قالت: «اللهم إن كنت أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بنار جهنم، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمنيها... أما إن كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني من رؤية وجهك الكريم». وأول تباشير الحب في ميدان رابعة العدوية عروس تتلألا بثوب عرسها الناصع البياض، وقوامها الأهيف كقوام نفرتيتي، وعينان أكثر حوراً من العيون الحور الفرعونية. صورة العروس يحتضنها العريس من بين مجموعة صور داخل الميدان نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير عنوانه «المعتصمون يتخندقون ويعيشون». والعيش في الميدان «يعكس القدرات التنظيمية لجماعة الإخوان، ومهارة المصريين عموماً في تدبير أمرهم بما يتوفر بين أيديهم»، حسب الصحيفة التي وصفت تجهيز الخيام- وبعضها من طابقين- بالكهرباء، والتلفزيون، وخدمة الإنترنت، إضافة إلى مستشفى وصيدلية مجهزين، وعيادة أسنان، ومطابخ، وحمامات، ومرافق صحية عامة. وجميع الخدمات مجانية، بما في ذلك حلاقة الرأس وتدليك الوجه لدى حلاق الميدان. وتذكر الصحيفة أن تفكيك الخيام صعب، و«ذلك لما حشدوه من جماهير، وهياكل ارتكازية، وحماس ديني. وبينما غادر الملايين من مناهضي الرئيس المعزول ميدان التحرير، لم يتوقف مناصروه عن بناء شبكة معقدة من مجتمعات صغيرة». وتقارن الصحيفة الروح الاحتفالية في ميدان رابعة العدوية بمهرجان الهيبي «وودستوك» الشهير في سبعينيات القرن الماضي. وها نحن أمام لحظة تاريخية لا تنفك تعيد نفسها عبر التاريخ العربي الطويل في الصراع ما بين المعقول الديني واللامعقول العلماني. وما يحدد مستقبل مصر في هذا الصراع «التاريخي» ليس مواد البناء التي تلجأ إليها الأطراف المتصارعة في الميادين، بل طريقة البناء وفعل البناء نفسه، ذلك لأن الذي يُشيَّدُ في الحقيقة هو العقل العربي في مصر. «لأن أشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية منذ الجاهلية إلى اليوم تشكل في مجموعها ثوابت هذه الثقافة وتؤسس بالتالي بنية العقل الذي ينتمي إليها: العقل العربي». هذه الأطروحة الأساسية لكتاب المفكر المغربي محمد عابد الجابري «تكوين العقل العربي»، تتجسد حية ليس فقط في مضمون ما يقوله السياسيون والإعلاميون على الهواء، بل في «أوزان موسيقية تدركها الأذن بسهولة ويُسْر فيدرك السامع جزءاً من المعنى بمجرد إدراك وزن الكلمة»، حسب الأكاديمي السوري محمد المبارك. ويلاحظ المبارك في كتابه «فقه اللغة وخصائص العربية» أن «قوالب الألفاظ وصيغ الكلمات في العربية أوزان موسيقية، أي أن كل قالب من هذه القوالب وكل بناء من هذه الأبنية نغمة موسيقية ثابتة». ويفجع السمع والعقل كيف يتعارض ممثلو الأحزاب والتيارات المختلفة فيما نغمتهم الموسيقية متطابقة، وحوارهم منغلق في قوالب جامدة ذات نغمة موسيقية «تعوض أو تغطي فقر المعنى وتجعل الكلام الذي يجر معه فائضاً من الألفاظ ذا معنى حتى ولو لم يكن له معنى» (الجابري: 91). ويعني هذا ابستمولوجياً (أي معرفياً) أنه لا الموضوع اغتنى بهم ولاهم اغتنوا بالموضوع، ولا نحن. ومزايدة الطرفين بملايين الأرقام من لزوم أنغام الكلام، وعلى وقعها تترنح مصر ما بين اللامعقول العقلي لنخبة مثقفين علمانيين يغمضون أعينهم عن رؤية مصر الدينية، وبين العقل المستقيل لحركات دينية لا ترى مصر العلمانية. وتتكرر هنا مأساة الاختلاف السني الشيعي المستمرة منذ القرن الثامن للميلاد، ذلك لأن كلا من الطرفين يُطوِّق الآخر بصمته عنه. سكوت العقل السني جزء من الشروط الموضوعية التي تحدد شروط صحة عقله، وسكوت العقل الشيعي جزء من الشروط الموضوعية التي تحدد شروط صحة عقله (الجابري: 66). وإذا كان العراقيون الذين لم يعرفوا الاغتيالات السياسية في تاريخهم لا يعرفون كيف يتوقفون عنها منذ 10 أعوام، فالله في عون المصريين المتمرسين في الاغتيال السياسي، من اغتيال وزير الخارجية بطرس باشا غالي عام 1910، ورئيس الوزراء النقراشي باشا عام 1948 حتى اغتيال السادات عام 1981. ولا نحتاج إلى أن نكون علماء بـ«الربيع العربي» لندرك أن «الإخوان» وجماهيرهم هم الضمانة من الانزلاق في بحر الدماء، وذلك لأنهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك، ويعرفون كيف يفعلونه. ينتبه إلى ذلك محمد القماطي، أستاذ العلوم الإلكترونية في «جامعة يورك» في بريطانيا في مقال بالإنجليزية عنوانه «فَرضُ النظام العسكري في مصر يهدد بالحرب الأهلية». يستعيد القماطي في المقال حكاية سليمان الحكيم الذي أمر بتقطيع طفل قسمين لحل النزاع بين امرأتين ادّعتا أمومته. وانسحبت الأم الحقيقية حفاظاً على حياة ابنها متنازلة عنه لامرأة لا حق لها فيه. «كذلك تفعل ملايين النساء خارج ميدان التحرير يعولن هلعاً على بلدهن الذي يمكن أن يُقسّم تدريجياً ويُقضى عليه». ويذكر القماطي أنه سمع قصة سليمان الحكيم على السلالم الحجرية لميدان القائد إبراهيم بالإسكندرية، حيث قضى صباه خلال الستينيات، ويقول: «على الأحزاب الدينية في مصر وفي العالم العربي أن تدرك أن خسارتها قد بدأت قبل أن تشرع بالعمل. فالجماهير تحتاج إلى مطامح، وطعام، وأمن في أوقات الاضطرابات، وكذلك الضحك والموسيقى التي غالباً ما تتجاهلها الخطابات الطنانة». ويسأل: «ألم يروا كيف سهر ملايين العرب عبر المنطقة كلها للتصويت للمغني الشاب من غزة محمد عساف؟ أنت لا تستطيع أن تحشر العقيدة والقواعد الدينية حشراً في أفواه الناس». وعندما يتحدث القماطي، الليبي الأصل، ينبغي الاستماع إليه، ليس لأنه يرأس «مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة» التي تنظم مهرجانات العلوم والتكنولوجيا الإسلامية في العواصم العالمية، أو لأنه مُنح العام الماضي «وسام الفروسية الإمبراطورية البريطانية» (OBE) لخدماته للعلوم، بل لأنه وجه بارز في التيار الإسلامي في بريطانيا، حيث تضاعف عدد المسلمين من مليون إلى ثلاثة ملايين في العقد الماضي، بينما انخفض عدد المتدينين المسيحيين للفترة نفسها بأربعة ملايين. وإذا كان ذلك هو لامعقول الربيع البريطاني فلامعقول «الربيع العربي» أن قوات الداخلية المصرية التي قتلت قبل التهديد بفض الاعتصام 150 معتصماً، واعتقلت ألفاً، ربما تقتل بفضها الاعتصام ألف معتصم، وتعتقل 10 آلاف، وتقتل في اليوم التالي 3 آلاف، وتعتقل 50 ألفاً، وفي اليوم الذي يليه تقتل 10 آلاف وتعتقل 100 ألف، وفي نهاية الأسبوع تعتقل قوات الداخلية نفسها. نكتة، لكنها أكثر معقولية من نكتة: «إحنا لما شِلنا نظام الإخوان المسلمين أبهرنا العالم، وحنبهره أكثر لما نروح مرجعين النظام». والمعقول جداً شعار الانتخابات القادمة: «لا اخترناه ولا بايعناه... نجح إزاي... سبحان الله».