في الأمثال العربية أن «أهل مكة أدرى بشعابها»، وفي الأمثال المصرية أن «اللي بينضرب مش زي اللي بيعد»، ومع هذا، نحن نقول رأياً في نظام أو حاكم، أو إجراء أو وضع موجود في دولة أخرى، على عكس رأي أهل البلد نفسه، أو رأي غالبيتهم. وفوق هذا، نحن نتعامل مع ضحايا ذلك النظام أو الحاكم، أو آثار ذلك الإجراء أو الوضع، بنوع من البلادة، أو كمثل الأشخاص الذين كانوا يحتشدون أثناء جلد الفلاح المصري في فترات سابقة، وهم يهتفون برقم ضربات السياط التي يتلقاها الفلاح على ظهره، حتى قيل ذلك المثل. ما يجري في الدول لا يختلف عن الذي يجري في البيوت من حيث فهم الأوضاع، والوقوف على الحقائق، ومعرفة الأبعاد والآثار والنتائج. وابني، وليس ابن عمه، وابني، وليس ابن الجيران، يعرف حقيقة الأوضاع في منزلنا، وهو أكثر شخص في العالم سيشعر بالمعاناة لو كان منزلنا سيئاً، والعكس لو كان المنزل رائعاً. وأهل بيتي، دوناً عن بقية السبعة مليارات آدمي، يعرفون أن الوضع في البيت لا يطاق حتى لو حصلتُ على جائزة أفضل بيت في العالم، وهم أيضاً الذين يعرفون أن البيت تغمره السعادة، ولو كان كل البشر يرونه على عكس ذلك. وأنا أعرف أن الحذاء الذي يبدو جميلاً ونظيفاً في عين زوجتي، هو في قدمي ضيق وأشعر بالآلام بسببه. وسيكون غريباً لو أصرّت زوجتي أنني لا أعاني من الحذاء، لأنه يبدو جميلاً ونظيفاً ومن ماركة عالمية. إلى اليوم، هناك أشخاص غير عراقيين يدافعون عن نظام صدام، وإلى اليوم هناك أشخاص غير سوريين يدافعون عن نظام بشار، وإلى اليوم هناك أشخاص غير ليبيين يذكرون القذافي بالخير... رغم كل الآلام والمآسي والدمار الذي تسبب به هؤلاء في حق شعوبهم وأوطانهم، بشهادة أبنائها الذين نقرأ لهم، ونسمع عنهم، ونلتقي بهم. وإلى اليوم، هناك أشخاص لا ينتمون إلى دول «الربيع العربي» يجادلون شعوبها في أوضاعهم التي ثاروا عليها، ويترحمون على أيام حكّام لم يعيشوا لحظة واحدة تحت حكمهم. وحين تقول لهم إن أهل العراق وسوريا وليبيا وأي دولة أخرى في العالم، هم أعلم بدولهم، وهم يقولون عكس ما تقول، فإنه يطرح أمامك آراء منتقاة لأشخاص ينتمون إلى تلك الدول يقولون عكس ما يقوله مواطنوهم الآخرون. وبعيداً عن مسألة الأكثرية والأقلية، فحتى لو تساوت أصوات جماعتين من شعب واحد، تقول كل واحدة منهما رأياً يخالف رأي الجماعة الأخرى في قضية من القضايا، فإن حياد البعيدين وصمتهم أولى من الوقوف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك. قد تقف اللغة حائلاً دون فهم شخص حقيقة مشاعر مواطني بلد يجهل لغتهم، وقد يؤثر غياب وسائل الإعلام في بلادهم على رأيه فيما يجري هناك، لكن ما حجة من يعرفون لغة بعضهم بعضاً، ويمكن بقليل من التواصل أن يطلع على الحقيقة؟ لن يؤنبني ضميري لو نمت قرير العين وقد دافعت عن أمر أجهل تفاصيله وأبعاده، لكن كيف ينام من يجادل أشخاصاً في معاناتهم، وهو يعلم أنها معاناة حقيقة، إلا إذا كان فاقداً للإحساس ويتعامل مع معاناة البشر كأرقام؟! وهذا الافتئات على من هم أدرى بشؤونهم يحدث أحياناً بطريقة معكوسة، فيأتي شخص من آخر العالم ليجادلك في أمور أنت تعيشها، وواقع أنت جزء منه، ويأخذ في احتساب ضربات السياط التي لم تلهب ظهرك قط، كأنه أقرب إلى ظهرك منك! يقول برنارد شو: لو لم يتحدث الناس إلا فيما يفهمونه لبلغ الصمت حداً لا يطاق.