أسوأ ما يمكن أن يحدث في الصراع السياسي العربي الحالي هو أن يقتنع الناس العاديون بأن سقوط جماعة «الإخوان المسلمين»، باعتبارها تياراً أو فصيلاً سياسياً تعوَّد استغلال الدين لأهداف سياسية، يعني سقوط الدين الإسلامي من المجتمع، أو أنه نهاية لكل المسلمين في الأرض. والمشكلة أن «الإخوان» يصدِّرون هذا الخطاب للناس، مع أن «الإخوان» تيار واحد من تيارات إسلامية أخرى في المجتمعات العربية. بدأ «الإخوان» يبنون صورة لدى الرأي العام العربي بأن سقوط الرئيس المعزول محمد مرسي سقوط للدين الإسلامي! بل إن البعض يتصور أن كل المسلمين هم أولئك المعتصمون في ميدان «رابعة العدوية» وحدهم، وأن الذين لا يتعاطفون معهم خارجون عن العقيدة الإسلامية وأعداء للدين الإسلامي، مع أننا لو نظرنا إلى من يقف ضد سياسات «الإخوان المسلمين» في المجتمع العربي وفي ميدان التحرير لوجدنا منهم عشرات الملايين من المحجبات وذوي اللحى والمؤمنين إيماناً خالصاً ونقياً بالدين الإسلامي. لكن «سخونة» الجو السياسي وكثافة «البروباجندا» واحتدام الصراع، كلها عوامل جعلت بعض الناس العاديين يعتقدون أن الإسلام سينتهي إذا فشلوا في إعادة «الإخوان» إلى الحكم. إذا وجدنا المبرر لهذا الفهم المغلوط في حالة الغضب والانفعال المرتبطة بسقوط «الإخوان»، وأنها السبب في الربط الخاطئ بين هذا التيار والدين، فإننا نعتقد أنه بعد انتهاء هذه الحالة وهدوئها سيقتنع الذين وقعوا ضحية دعاية «الإخوان» بأن الإسلام كدين باق، وأن الآخرين مسلمون ولكنهم بعيدون عن السياسة، بل إنهم يحبون وطنهم بعيداً عن صراعات الأفكار. فهناك تيار سياسي مضاد يعتبر سقوط «الإخوان» دليل انتصار اتجاه سياسي وفكري معين، وليس انتصاراً للوطن الذي ينبغي أن يكون هو الرابح الوحيد في كل الصراعات الفكرية والسياسية. الصراع الحقيقي الآن في المجتمع هو من أجل إثبات صحة فكر معين أو عقيدة سياسية، فيما الخاسر الأكبر في هذا الصراع هو الوطن. وقد أدى ذلك إلى ظهور أصوات وحركات شبابية تدعو إلى الابتعاد عن التصارع الفكري، والتركيز فقط على الحفاظ على الوطن وحماية الدولة بوصفها كياناً يضم جميع التيارات والآراء. إن لغة الانتصار على الآخر هي التي تسيطر على كل طرف في مواجهة خصومه، ويصعّد السياسيون من حدة الاستقطاب دون اكتراث للتداعيات، فهم يُبدون استعداداً للتقاتل وتمزيق المجتمع حتى لو كان المتضرر هو الوطن والشعب، فالمهم «كرسي الرئاسة». وللعلم فإن هذه هي الخلفية التي بررت دخول القوى الدولية في الصراعات الداخلية، بل والاستقواء بها، ما يعني أن احتواء المتخاصمين في إطار التنافس السياسي بات مُستبعَداً في كثير من الدول العربية. وتتسم أغلب الانتماءات الفكرية العربية بأنها لا تحترم الجغرافيا الوطنية، بل إن الكثير منها عابر للحدود، مع أن الدول الأخرى -رغم ارتباطاتها العالمية التي تحرص عليها كقيمة سياسية- تقف بكل قوة للدفاع عن المصالح الوطنية عند أي مساس بها. أذكر أنني قرأت خبراً قبل فترة عن أن ممثل التيار اليساري في البرلمان الأوروبي اعترض على موقف سياسي لقائد حزب اليسار التركي، بعدما قام الأخير بتوجيه انتقادات ضد الحكومة التركية ورئيس وزرائها رجب طيب أردوجان، وعلل البرلماني الأوروبي اعتراضه بأنه ليس من قيم التيار انتقاد الحكومات خارج الوطن. وأعتقد أننا -نحن العرب- نحتاج إلى أن نفهم هذه الصورة الديمقراطية بشكل أوضح، بدلاً من تمزيق الأوطان لمصلحة الأفكار التي باتت تسوِّغ استنفار الخارج واستحضاره، وكأن المسألة ليست قضية داخلية. في الدولة الوطنية كما يدعو لها المنتمون الحقيقيون إليها، ممن لا يؤمنون باستيراد الأفكار السياسية من الخارج مهما كانت ناجحة في دولها باعتبارها تجربة نمت في أرضية خاصة بها وأنها نضجت وفق معايير معينة وأن مجتمعاتنا لها تجربتها الخاصة المنطلقة من العادات والتقاليد التي تناسبنا، فإن أي تدخل خارجي لصالح أي تيار أو حزب مهما كانت مبرراته عادلة، يُعدُّ خطأ سياسياً غير مقبول، ويصدق هذا -على الأقل- على العقلية العربية والخليجية تحديداً، وبالتالي فإن السمعة الوطنية لمن يستقوي بالخارج تكون مشوهة، بل يكون الدعم الخارجي سبباً في أن يخسر المستقوون أي رصيد سياسي إيجابي لدى الشعب. ومن الصعب تبرئة «الإخوان المسلمين» من نشر مناخ تخويف الناس بأن نهايتهم تعني سقوط الدين الإسلامي، وبالتالي فإن كل الطرق والوسائل مشروعة من وجهة نظرهم إذا كانت تساعد على عودتهم، والتي تعني عودة الدين بزعمهم. ولا يمكن تبرئة «الإخوان» كذلك من تأجيج الصراع الفكري مع باقي الأطراف الأخرى، باعتبار أن التركيز على «أخونة» الدولة والهيمنة على كل مواقعها دفع الطرف الآخر إلى محاولة إقصاء «الإخوان المسلمين» تماماً، لذا فإن الحالة التي نعيشها من التشدد تنطلق من الفكر الإخواني الذي لا يعرف العيش إلا في ظل التصعيد والفوضى السياسية. لا أجد حلاً لمشكلة التصارع الفكري إلا بالدعوة إلى الاهتمام بـ«الدولة الوطنية»، وبالتالي يكون كل مواطن معنياً بما يتم في دولته ويعمل على حمايتها بعيداً عن الانتماءات السياسية والأفكار التي عادة ما تكون خارج الحدود، بغض النظر عن طبيعة تلك الأفكار، وهو ما يمكن أن نعرِّفه هنا بتأصيل قيمة الوطن. وهذا -كما أعتقد- عرفته العديد من المجتمعات الغربية التي نجحت اليوم في أن تختلف في أفكارها، ولكن عندما تصل المشكلة إلى المساس بالوطن يتوقف كل خلاف. وتُعتبر إسرائيل أوضح مثال على ذلك؛ فرغم حالة التشرذم فيها ما بين الأفكار والعرقيات، لا نجد أن هناك تقديماً للحسابات الحزبية على مصلحة الدولة. أعتقد أننا في هذه اللحظة من التاريخ العربي أحوج إلى أن تكون لدينا إرادة سياسية وطنية تتعامل مع مظاهر الصراع الفكري بعقلية وطنية ترتفع فوق كل الاختلافات الفكرية، ولا تذهب بنا إلى خارج الحدود.