ماذا يُقال عن أحوال العراق، وهو ما تغيب شمس يوم دام فيه إلا ويستيقظ أهله على فجر دام، وما كنت أكتب هذه البكائية لولا الزلازل التسعة من ظهيرة السبت الماضي (10 أغسطس 2013)، ولو عدتم بذاكرتكم إلى هذا اليوم من كل عام ومن كل شهر ستجدون زلزلةً. عندما يتعلق الأمر بحياة الناس لا تنفع الوعود، وهي تعدت وعود عرقوب الشهير، في المنح والعطايا وسد الاحتياجات، فبعد فضيحة وعد بيع الكهرباء صارت الوعود مجرد أضاحيك. كلُّ ما قدرت عليه سلطة حزب الدَّعوة الإسلامية، فرع الحجي نوري المالكي وبقية الفروع، أن تتأهب لمنع التظاهرات وإن كانت المطالب نظافة شارع وحماية مقهى، وأقول الحجي ليس تهكماً إنما هذا هو اللقب الذي ينادونه به أصحابه، وهو لقب ليس جديداً على العراقيين، فقد كان خال السلطة السابقة خير الله طلفاح (ت 1993) معروفاً بالحاج، فقط الاختلاف في اللهجة ذاك الحاج وهذا الحجي. لكن خصومتنا مع الحاج طلفاح، وبعد أن رأينا مَن أتى في العصر الجديد من المحافظين لبغداد، تتبدد، وإن كانت عن طريق تأكيد الجاه، فقد كان ديوانه مفتوحاً للوساطة، مِن خصومة الزَّوج مع زوجته إلى تعيين العاطلين، وقد حصلت مع قريب لنا، قصده وحصل كتاب تعيين كاتباً في محكمة، ولم يسأله عن مذهبه أو منطقته، وعندما ودعت صاحبنا إلى محطة القطار كان يدعو للحاج بطول العمر! وله أيضاً بشهادة الأديب العراقي مير بصري (ت 2006) رئيس رابطة ما تبقى مِن مواطنيننا اليهود، وكان بعد 1948 قد استبدل الاسم الرسمي للطائفة الإسرائيلية إلى الطائفة الموسوية، نسبة إلى النبي موسى. كتب بصري وسمعته منه عندما حدث أن تعرض شبابهم (يناير 1972) إلى الخطف، فذهب إلى طلفاح، ولما قال له الأخير: «ما شأني في القضية؟»، رد عليه: «إنك محافظ بغداد ونحن أهل بغداد فمن واجبات وظيفتك أن تحافظنا»! فرد طلفاح: «هذا منطق صحيح» (بصري، رحلة العمر)! قبل أن تمتد الألسن بالاعتراض على الشاهد الذي أوردناه، على أن الحاج طلفاح هيمن على جمعيات وأراض، نقول: صحيح، ولكن قد لا يصل إلى نهب وسلب حجاج وسادة هذه الأيام، مِن عقارات ونقل أموال، وجامعة البكر ومطار المثنى والجادرية والمنطقة الخضراء وما حولها شواهد! عندما يحصل وباء كالطاعون أو خسف في الأرض لا يفكر المنكوبون بكهرباء وماء ونظافة طريق، إنما يفكرون كيف يوارون موتاهم، ففي الكوارث صار دجلة مقبرةً مراراً! كان ذلك في القرون الخوالي، وليس في زمن طفرت فيه ميزانية العراق إلى أكثر من مئة مليار دولار، وترى القائمين على الأمر اصطنعوا أسلوب غض النظر عما يُكتب أو يُقال، «أذنٌ طين وأذنٌ عجين» أو «أذنُ سطح وأذن مرزيب»، ويعبران عما تسمعه اليمنى يخرج من اليسرى (الشَّالجي، موسوعة الكنايات البغدادية). مع أن الموت يحكم حلقاته على العراقيين، على مدار الساعة. هناك مسألة تنخر في الأمن العراقي، فبعد عدم وجود الكفاءة، يجري الحديث عن التعيين في الدفاع والداخلية والاستخبارات بالرشوة، الرشوة المركبة التي تبدأ بشيخ العشيرة أو المتنفذ، عن طريق الدين أو الاجتماع، وهذا بدوره يُقدم الأسماء، فيجري القبول وفق هذا المعيار لا معيار آخر، وتصل إلى المسؤول عن القبول حصته. ناهيك عن وجود أعداد كبيرة يتسلمون رواتبَ وهم في بيوتهم أو أعمالهم الحرة. بطبيعة الحال هذا الأمر له صلة بالانتخابات، فشيخ العشيرة أو الوجيه الفلاني يضمن الأصوات، وكم مِن فائز وصل إلى السلطة والبرلمان عن هذا الطريق. لا أتحدث من عندياتي إنما وفق رسالة وصلت ممن فاض به الكيل وهو يرى حياة العراقيين رهن الراشي والمرتشي، فعن أي ديمقراطية وعن أي دين يتحدث مكتب الحجي؟ نكررها أن المالكي وصل إلى حد الزهو بأن الناس تموت يومياً وهو القائد العام للقوات المسلحة والمخابرات والداخلية والدفاع، وقادة الفرق من حزبه! إنها مشكلة عندما تُقدر شؤون الدولة وإدارتها على مقاس شؤون الحزب وإدارته وهو في المعارضة، فمنسق أمن الحزب مع مخابرات دولة لا يعني أنه قادر على إدارة أمن العراق في ظرفه الصعب والقاتم، وقد أعاد إلى الأذهان خروج المالكي أو وكيل الداخلية يتحدث مع سائق تاكسي إلى لعبة الإعلام، السابقة عندما كان السَّلف يزور العائلات على غفلة ويفتح الثلاجات، لعبة قديمة جداً ومكشوفة للأعيان، فما عاد النَّاس يأخذون بها. إن فضيحة هروب السجناء، وقد سببوا رعباً للمنطقة الخضراء، كانت صارخة إلى حد تتخيل فيه أن السجن ومن فيه هو السلطة التي يُطلب منها الحماية لا الخضراء وساكنوها! فتوجهت الحشود لحمايتها والناس عراة، يموتون على هوى الإرهابيين، بعض الآملين الخير من رئاسة الوزراء، رغم مرور ثمانية أعوام والعراقي مازال يريد الخروج من هذا المسلخ البشري اليومي. يتحدثون بسذاجة عن دور «البعث» و«القاعدة»، عن دور الحرامي وليس واجب الحارس! البعثيون يريدون العودة إلى السلطة، وهم معرفو الهوية و«القاعدة» معروفة الممارسة والتوجه، لكن أين المليارات التي صُرفت على الأمن؟ وممَن يُطلب الأمن؟ لماذا لا يُحاسب القائد العام على الموت المجاني، ويُتفق سريعاً على حكومة إنقاذ وطني، لمحاولة إيجاد حل أفضل من واقع مرير؟ نتخيل ساكن الخضراء كوالي مصر مِن قِبل العباسيين، محمد بن طُغج الأخشيد (ت 334 هـ)، كان قلقاً على حياته عندما ينام يحرسه بالنوبة كل يوم ألف مملوك، ويوكل الخدم بجوانب خيمته، ومع ذلك لا يطمئن «حتى يمضي إلى خيمة الفراشين فينام فيها» (ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة). لكن الرجل، مع قوة تحرزه على نفسه إلى حد الجبن، على درجة من الشجاعة أيضاً، يركب أمام جيشه ويقاتل، ولم يرسل الخليفة العباسي معه جيشاً غازياً، إنما اضطر لتكليفه بالولاية لانتصاراته الشخصية، وكان يحمي من حوله والموت لم يُطوق إمارته بحلقاته. أظن رئاسة وزارة وقيادة قوات وأمن ومخابرات لثمان سنوات وجنائز موتانا تمر أفوجاً أفواجاً، انتهت صلاحيتها، فلم يبق للناس غير إنشاد بكائية «أخي» لميخائل نعيمة (ت 1988) ولازمتها: «فهات الرّفْشَ وأتبعني لنحفر خندقاً آخَر نُوَارِي فيه موتانا»، فملحمة الموت تحكم حلقاتها، والفاشلون ما زالوا مزهوون بالسلطة!