لا يمكن تحليل وفهم حقيقة موقف أردوجان الرافض للتظاهرات السلمية التي انطلقت في عموم أنحاء تركيا إلا كموقف ذاتي يخفي رغبة ضمنية للتفرد بالحكم وخشيةً على كرسي رئاسة وزراء بلد كبير مثل تركيا. طبعاً لا يجب أن ننكر هنا أن أردوجان جاء للحكم عبر صناديق الاقتراع منتخباً بصورة ديمقراطية شفافة، ولم يأت على ظهر الدبابات وبمعونة مدافع الداخل والخارج، وأنه حصل في آخر انتخابات برلمانية على تمثيل 50 في المئة من الشعب التركي. ومع ذلك نسأل باستغراب عن الغاية من إيقاف مد التظاهرات السلمية في ميدان تقسيم وغيره من ميادين وساحات المدن التركية الأخرى. إنها نفس العقلية الشرقية، خاصة عندما يعزف أردوجان على نغمة «الخارج» ووجود «المحرضين»... وغير ذلك مما سبقه إليه حكام عرب. وحتى لا نجحف بحق الرجل، لابد أن نعترف بأنه ليس «بن علي»، الحاكم شبه المطلق لتونس قبل الثورة، وليس «مبارك» مصر سابقاً، كما أنه ليس «كاميرون» أو «أوباما» أو «ميركل»... فهو رجل جاء إلى الحكم بسلاسة ودون منغصات عسكرية أو أمنية، مع أنه ينتمي لبيئة شرقية. ومع ذلك عنده ففي تركيا مزايا وخصائص سياسية غير متوافرة في بلدان أخرى، وهي: 1- كونه يحكم ويمارس صلاحياته كرئيس وزراء في بلد تعددي ديمقراطي علماني (ولو بصورة غير مكتملة)، ما يعني ضمناً أن هناك قوى وأحزاب معارضة تقف بقوة في مواجهة أية مطامع تسلطية. 2- المجتمع المدني التركي حي وموجود، وهو بمعظمه ذو خصال شرقية متدينة باعتدال، وهو أقوى من الحكومات المتعاقبة حتى تلك التي يؤيدها ويقف معها في الانتخابات كحكومة «حزب العدالة والتنمية» الحالية، حيث يعيش الجميع في ظل وجود «علمنة» متأصلة ومتجذرة يرعاها ويحميها جيش قوي (رابع جيش في «الناتو» والعالم)، غير تابع لأردوجان ولا جول، بل تابع للدستور والدولة والقانون العام. 3- حكومة أردوجان خاضعة دوماً للنقد والمساءلة والمراقبة من قبل البرلمان والهيئات السياسية، ولا يمكنها إلغاء دور المعارضة وحضورها أو التعمية عليها ببعض الإنجازات الاقتصادية والتنموية التي حققها «حزب العدالة والتنمية»، حيث ارتفعت نسبة حصة المواطن التركي من الناتج القومي منذ عام 2004 من 7 آلاف دولار إلى 17500 دولار العام الماضي، وأصبح الناتج القومي التركي يقارب حدود 770 مليار دولار سنوياً. 4- يوجد في تركيا إعلام قوي يقوم بتغطية الأحداث والمظاهرات التركية، ويؤدي دوره في مراقبة عمل الحكومة بالكامل. 5- الحكم التركي مؤسساتي منذ زمن طويل، وليس مشخصناً لفرد أو فئة، فمؤسس الدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك ذاته انقلب على العثمانيين كعائلة تاريخية، وبنى دولة علمانية قوية، وهذا أصل راسخ وثابت، فتركيا اليوم لشعبها جميعاً وبالتساوي. وبفضل كل ذلك تعيش تركيا ازدهاراً اقتصادياً واستقراراً سياسياً ملحوظين، حيث استطاعت تحت ظل حكم إسلامي علماني معتدل ذي توجهات ليبرالية عامة، ربط التدين بالعلمنة في تناغم وانفتاح كانا شرطاً لدفع المواطن التركي للعمل والإنتاج وإثبات الوجود. وأخيراً أعتقد أنه لا مفر من المحافظة على التظاهر السلمي، فذلك يمثل مؤشراً مهماً على صحة وعافية أي مجتمع وعلى حضوره في عالمنا المعولم الذي لا يعترف إلا بالدول والمجتمعات القوية. نبيل علي صالح كاتب وباحث سوري ينشر بترتيب مع «منبر الحرية»