تستحق سلطة الرئيس السابق محمد مرسي وجماعة «الإخوان» أن تدخل موسوعة جينز باعتبارها السلطة التي بددت أكبر عدد من الفرص التي أُتيحت لها، وتصرفت بطريقة أدت إلى اندلاع إحدى أسرع الانتفاضات الشعبية ضد حكم جديد في العصر الحديث. كما لم يحدث من قبل أن حددت طليعة ثورية موعداً محدداً لانتفاضة أو ثورة تستهدف سحب الثقة من حاكم وإسقاط سلطة حزب أو جماعة في يوم بعينه، ناهيك عن أن تنجح في ذلك. وليست هناك سابقة في تاريخ الانتفاضات والثورات لمثل هذه الثقة التي عمَّت قطاعات واسعة من الشعب المصري في أن نزولها إلى الشوارع والميادين سينتهي بانتصار إرادتها. نحن، إذن، أمام حالة فريدة من جوانب عدة. لكن مصدر فرادتها هذه هو أداء السلطة التي اندلعت انتفاضة 30 يونيو ضدها. فقد أهدرت هذه السلطة في البداية فرصاً كان الإمساك بها كافياً لأن تدخل التاريخ من أحد أفضل أبوابه. كما بددت في النهاية فرصاً كان الأخذ بإحداها كفيلاً بالحيلولة دون خروجها من التاريخ عبر أسوأ أبوابه. فقد أسرع مرسي بإهدار الفرصة التي وفّرها له وقوف كثير من القوى الوطنية معه في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية في يونيو 2012 رفضاً لمنافسه فيها وليس تفضيلاً لجماعته. وارتبط موقف تلك القوى الاضطراري آنذاك باتفاق تعهد فيه مرسي ببناء شراكة وطنية واسعة وعدم الانفراد بالحكم. لكنه لم يلبث أن تراجع عن هذا التعهد، وكل ما اقترن به من التزامات، عقب إعلان فوزه بأغلبية طفيفة كان لمن وقفوا معه من خارج جماعته الفضل في حصوله عليها. فقد أدار ظهره لهم، وللشعب في مجمله، وتصرف باعتباره رجل الجماعة أو التنظيم وليس رئيس الدولة. وهكذا أهدر مرسى الفرصة التي أتاحها له تعهده بتشكيل حكومة شراكة وطنية ترشح القوى الوطنية التي دعمته في جولة الإعادة شخص رئيسها. وكان نكوصه عن تعهده هذا مؤشراً أولاً على أن جماعة «الإخوان» اختارت طريق الاحتكار والهيمنة وفضلت أن تنفرد بالسلطة في دولة فاشلة على أن تقود دولة ناجحة أو قابلة لتحقيق النجاح. وجاء تشكيل حكومة هشام قنديل في أول أغسطس 2012 دليلاً على ذلك، برئيسها المتواضع في إمكاناته وأعضائها ذوي القدرات المحدودة، فضلاً عن افتقادها أي برنامج أو خطة للعمل. وما أن تمكن مرسي من إخراج المجلس الأعلى للقوات المسلحة من المشهد السياسي في منتصف أغسطس 2012، والانفراد بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، حتى أخذ في التصرف كحاكم مطلق. وعندما وجد السلطة القضائية عائقاً أمام جموح جماعته للهيمنة والتمكن من مفاصل الدولة كلها، ارتكب أكبر خطأ منذ توليه الرئاسة عندما أصدر قراراً إدارياً في 21 نوفمبر 2012 أسماه إعلاناً دستورياً دون وجه حق لتحصين كل ما يفعله ومنع الرقابة القضائية على قراراته. وأغلق الرئيس السابق بهذا الإعلان آخر باب كان موارباً للحوار، حيث أصدره بُعيد لقاءات مع رؤساء الأحزاب والقوى السياسية وأبرز مرشحي الرئاسة السابقين. فلم يعد لدى أي من القوى الوطنية وقادتها أدنى ثقة في رئيس تراجع عن تعهداته كافة، وجعل الحوار سبيلاً للإيحاء بأنه يشرك هذه القوى في قرارات وإجراءات لا تقبلها. وكانت هذه هي نهاية الفرص التي سنحت لمرسي وسلطته لدخول التاريخ من أحد أحسن أبوابه. غير أن فرصاً أخرى أُتيحت له منذ ذلك الوقت لتجنب الخروج من التاريخ من أسوأ أبوابه مرفوضاً من شعبه ومعزولاً عبر انتفاضة كبرى. فقد طُرحت عليه مبادرات لتصحيح المسار من جانب أطراف عدة بينها حزب «النور» السلفي الذي أدرك منذ يناير 2013 أن مرسي وجماعته يقودان البلاد إلى كارثة. فقد أصما أذنيهما، وحققا رقماً قياسياً جديداً في إهدار الفرص التي أُتيحت للتصحيح. وكان الاتحاد الأوروبي طرفاً في بعض المحاولات التي بُذلت سعياً إلى هذا التصحيح، خاصة عندما طرح مبعوثه برنادرينو ليون في آخر أبريل 2013 حلاً وسطاً تضمن تغييراً محدوداً في حكومة قنديل يشمل رئيسها وخمسة أو ستة من الوزراء الذين تقوم وزاراتهم بأدوار مباشرة في العملية الانتخابية، واتخاذ عدد من الإجراءات اللازمة لنزاهة هذه العملية بما في ذلك تعيين نائب عام مستقل. وقد قبلت أغلبية الأحزاب الوطنية الديمقراطية (المدنية) المنضوية تحت لواء «جبهة الإنقاذ الوطني» هذا الحل الذي وجد مبعوث الاتحاد الأوروبي استعداداً مبدئياً لقبوله لدى بعض قادة جماعة «الإخوان» قبل أن تصدر قرارها النهائي برفضه ويعلن مرسي تمسكه ببقاء حكومة قنديل مع إجراء تعديل شكلي فيها لم يشمل الوزارات المؤثرة في العملية الانتخابية. وأدى ذلك، فضلاً عن الهجمة الجديدة التي شنتها جماعة «الإخوان» واتباعها عبر مجلس الشورى غير الشرعي ضد السلطة القضائية، إلى تصاعد الأزمة في الوقت الذي كانت «حملة تمرد» تلقي تجاوباً متزايداً فاق كل التوقعات في تحركها لجمع توقيعات من أجل سحب الثقة من مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة والدعوة لنزول كل الموقعين على «استمارة التمرد» إلى الشوارع والميادين في 30 يونيو. وهكذا كان الغضب الشعبي يزداد بسرعة قياسية على نحو جعل الانتخابات الرئاسية المبكرة هي السبيل الوحيد لحل الأزمة. وكان بإمكان مرسي التكفير عن كثير من أخطائه وخطايا جماعته لو أنه بادر بالدعوة إلى هذه الانتخابات قبيل 30 يونيو، لكنه أهدر هذه الفرصة، وتصور أن بإمكانه قطع الطريق على الإرادة الشعبية عبر مباغتة الجميع بإعلان حالة الطوارئ واعتقال معارضيه الرئيسيين وغلق القنوات الفضائية والصحف التي تكشف الحقائق، بعد أن يستبق أتباعه اليوم الموعود (30 يونيو) بالاعتصام في ميدان رابعة العدوية في 21 يونيو. غير أن اتجاه مرسي وجماعته إلى هذه الإجراءات الخطيرة أثار قلق قيادة الجيش فاستبقتها ببيان 22 يونيو الذي طالبت فيه بتحقيق مصالحة وطنية خلال أسبوع، وأوضحت الأخطار التي تهدد الأمن القومي جرّاء غياب هذه المصالحة. وكانت هذه هي الفرصة قبل الأخيرة التي أهدرها مرسي وجماعته مثل سابقاتها، وكذلك فعل أيضاً مع لاحقتها وآخرها المتضمنة في مهلة الساعات الثماني والأربعين التي أعلنتها قيادة الجيش عصر الأول من يوليو بعد أن انتهت مهلة الأسبوع الذي سبق أن حددته، وظهر حجم الغضب الشعبي عبر الحشود التي تدفقت من كل حدب وصوب يوم 30 يونيو، وكانت هذه هي الفرصة النهائية أمام «الإخوان»، لكنهم بددوها أيضاً لتصبح تجربتهم في الحكم درساً بليغاً سيظل عبرة لمن يعتبر.