أسلوب التنشئة والتربية العلمية هو جوهر تقدم أي أمة، وانظروا ماذا تفعل الصين بنظامها التعليمي الأولي، وماذا فعلت فنلندا واليابان وسنغافورة والسويد، والثورة القائمة في أميركا، وربيع التعليم الأولي الذي سيقلب موازين القوى مرة أخرى للجانب الأميركي كقوة محورية ومنافس وحيد للعملاق الصيني، وكيف تلهث الهند وإندونيسيا (تصنف كواحدة من أسوأ الدول في نظام التعليم الأولي في آسيا، ونحن نستورد منها المربيات لتربية أطفالنا) وروسيا والبرازيل لإصلاح النظام التعليمي الأولي وتوعية المجتمع، وفن صناعة الأمم المتقدمة، فالمنظومة تبدأ من تربية الأم والأب للأطفال وتأهيلهما ليصبحا أولياء أمور متميزين، والعمل المدروس من بداية حمل الأم بوليدها. كل ما يحيط بالإنسان يؤثر ويتأثر به، ويساهم في تكوين شخصيته وميوله وإنتاجيته وصحته المستقبلية، فمن الأسرة والمدرسة والمجتمع إلى الغذاء ودور وسائل الأعلام وآليات وتقنيات التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة وبيئة الابتكار إلى اختيار أفضل الكوادر، والأكثر تأهيلاً في النظام التعليمي للعمل في رياض الأطفال، فالمربي الذي يحصل على شهادة الدكتواره في الدول الإسكندنافية على سبيل المثال، يظل يعمل في رياض الأطفال سعيداً بذلك ويُنظر له بإجلال واحترام كبير في المجتمع. ومن جانب آخر من غير المعقول أن لا يدرك الأهالي خطورة أواني الطبخ المحذر من استخدامها عالمياً من البلاستيك والألمنيوم والاستانلس على سبيل المثال وحجم تأثيرها على صحة الأطفال، وبالمثل علب التغذية المصنوعة من مواد غير زجاجية وأنواع بلاستيكية معينة، وتأثيرها على الدماغ والنمو على المدى الطويل من خلال تفاعلها مع الأكل الساخن المخزن، أو تسخينها وغيرها من المخاطر التي من الممكن تجنبها في التربية ومراحل النشأة الأولية للأطفال. فتجد حتى رياض الأطفال والحضانات تدهن جدران فصولها بألوان لا تحفز على التعلم والإبداع وتستخدم مواد غير صديقة للبيئة، وأين هي الدراسات المعمقة التي تتحدث عن تأثير هذه المواد؟ وهل تستخدم مواد ذات معايير صحية عضوية مستدامة، وتصمم المدارس لتكون مصانع للعقول الخلاقة حسب المرحلة السنية والجنس، ناهيك عن التعاقد مع شركات تغذية لإدارة المقاصف والمطاعم المدرسية التي يشترط ألا تقدم الوجبات السريعة وغير الصحية، ولكن في واقع الأمر تلك الوجبات التي تقدمها هذه الشركات غير مبنية على أسس علمية واحتياجات نمو الأطفال الذهنية التعليمية، بل جني الأرباح وتقديم ما هو مقبول ومصرح به ومن مواد أولية قد تكون نوعيتها متدنية لخفض التكلفة، فالتعليم ليس مسؤولية مؤسسات التعليم وحدها، بل مسؤولية الجميع من إعلام وجهات رقابة وإصدار تصاريح وترخيص وتصنيف فيما يخص الأمور الصحية والغذائية والنفسية والروحية والتعليمية والإعلامية والألعاب وتصميم وصيانة المباني وخلق البيئة التعليمية المميزة وكفاءة الطاقم التعليمي الأساسي والطاقم المعاون له، والجهة المسؤولة الأولى ألا وهي الأسرة وخاصة الأبوين والأقرباء. المرحلة الأولى في حياة الطفل ذات أثر بالغ على مستقبله، وهي حلقة وصل بين الأسرة من جهة، وبين المدرسة الابتدائية من جهة والمجتمع من جهة أخرى، وهي تبدأ من سن الرابعة وحتى يلتحق الطفل بالمدرسة الابتدائية وحسب ما تشير الأبحاث، فإن 30 في المئة من النمو العقلي للطفل يتكون في هذه المرحلة العمرية بالتحديد. وتبين البحوث أن السنوات الأولى تؤثر على بنية الدماغ البشري فالتجارب الإيجابية تساهم في بنائه بطريقة صحية، وفي المقابل التجارب السلبية أو المجهدة تكون بمثابة مواد سامة تؤثر على دماغ الطفل، تصرف فيها الدول فيما بعد مبالغ خيالية لإصلاح الخلل، الذي لم تتعامل مع جذوره لتشاهد نتائجه في سلوك أفراد مجتمعها والمزيد من الوقت والمال لعلاج ما لا يمكن علاجه ولكن فقط ترميمه للخروج بأقل الخسائر الممكنة. فالتعليم الأولي المبكر يتعلق بنشاط ونشأة الطفل في منزله ومع أفراد أسرته وبيئته المحيطة المباشرة والمجتمع الذي يعيش فيه وتجاربه في الحياة وتفاعله معها بصورة عامة. ويجب هنا أن نشير إلى حجم تأثير مشكلة وجود عاملات المنازل من الجنسيات المختلفة في المجتمع العربي بصورة عامة والمجتمع الخليجي بصورة خاصة، وهي فئة تحظى بمستوى تعليمي متواضع وعليها ديون متراكمة وتقف خلفها مافيا وعصابات تتحكم فيها، وتبتزها في الكثير من الحالات وتعاني هذه القوى العاملة من مشاكل نفسية لا تعد ولا تحصى، وتعمل الكثير من مكاتب جلب الأيدي العاملة المنزلية بصور تقليدية ومسيئة لصورة الدول التي تمارس نشاطها فيها، إذا نظرنا للعاملين بها وتعاملهم غير الحضاري أحياناً خلف الكواليس مع العمالة المستوردة، فكيف لشخص محطم نفسياً ويعمل على مدار الساعة، ويعامل معاملة غير حضارية، ولا يملك مؤهلات المهنة أن يربي أويساهم في تربية جيل... وكلنا يعلم أنه في الكثير من الأسر أن تلك الفئة هي من يؤثر بصورة كبيرة في نشأة الأجيال القادمة. وبدلاً من وجود 3 إلى 4 عاملات في المنازل، لماذا لا يعود ويدرب الأطفال على تحمل المسؤولية، فالأبناء بهذا الأسلوب من التربية مهما صرفنا على تأهيلهم العلمي، فإن نسبة مساهمتهم في بناء مجتمع متقدم لن تتعدى 20 في المئة في أحس الحالات. ولكن لو ساهم كل أفراد الأسرة في إدارة منازلهم وحياتهم الأسرية لما كان هناك حاجة لأكثر من شخص واحد لكل أسرة يقوم بإعداد الطعام وإدارة شؤون المنزل كمدير منزل وليس بعامل يأمره طفل في سن السابعة، وهو مستلقٍ أمام شاشة التلفزيون لإحضار مشروب غازي له وهو لا يحرك ساكناً، وينهض من النوم ولا ينظف غرفته ومرحاضه، ويأكل وجبات غير صحية، فلا عجب في أن تكون نسبة مرض السكري والبدانة هي الأعلى في العالم بين أطفال الخليج العربي، ويكون الجيل القادم فاقد أهلية تحمل المسؤولية واتكالي لأبعد درجة، وجزء من ثقافة الحق المكتسب دون بذل أي قطرة جهد، والتي أدمن عليها الكثير من أفراد المجتمعات الخليجية، وسلوك إلقاء اللوم على الآخر والهروب من المسؤولية والمساءلة. وفي حالة استقدام مربية أطفال يجب إخضاعها لجميع أنواع الاختبارات النفسية وشريطة أن تملك مهارت التحدث باللغة الإنجليزية بطلاقة ولديها شهادة كفاءة في اللغة العربية الفصحى، ولديها مؤهل جامعي في تخصصات تربوية ونفسية. وعطفاً على ما تم طرحه، أرى أهمية إعادة النظر في الكادر والأساليب التعليمية المتبعة في مرحلة الروضة في العالم العربي كمسألة حيوية للتنمية المستدامة للمجتمعات. والإمارات وإمارة أبوظبي بالتحديد نموذج رائع يسير على خطى الدول الأكثر تقدماً في هذا النهج، لكن يجب مراجعة وقت الخروج من رياض الأطفال لحمايتهم قدر المستطاع من خطر تربية المربيات الأجنبيات بالمنزل، وربط تلك المؤسسات بنوادي رياضية وعليمة وفنية وثقافية ونوادي ذكية يمارس فيها الأطفال نشاطات مختلفة، وتقوم على بحوث تنمية الطفل، ويستخدم إطار يستند إلى العلم للنهوض مع إشراك المجتمعات والمؤسسات المحلية والأسر في فعاليات الأطفال وتوفير الفرص الفردية للأطفال لاكتشاف العالم الخارجي في نشاطات بعد اليوم الدراسي باعتباره حجر الزاوية في التعليم مدى الحياة والتعليم الأساسي من المهارات اللازمة التي يطلبها توظيف القدرة إلى جانب التعليم الرسمي، وخاصة أن في وقتنا الحالي يحرم أطفالنا من أهم وسائل التعلم والنمو وهي التفاعل الاجتماعي، والتواصل المباشر مع أفراد المجتمع، بسبب السطوة الطاغية من وسائل التكنولوجيا المختلفة.