يحار كثير من المتابعين للسياسة الخارجية الأميركية في فهم الموقف الأميركي من التطورات السياسية الأخيرة التي شهدتها مصر اعتباراً من 30 يونيو الماضي، فقد أنكرت الإدارة الأميركية بداية إطلاق وصف الثورة على هذه التطورات وأصرت على أنها انقلاب عسكري ثم أخذت تعدل عن هذا الموقف تدريجياً إلى أن وصلت إلى عدم الممانعة في تكييف ما حدث على أنه ثورة. وعلى رغم ذلك ثابرت دوائر سياسية أميركية على الموقف الأول، ومن ذلك زيارة عضوي الكونجرس الأخيرة لمصر وقد نضح فيها جون ماكين بكل ما لديه من رؤى مغلوطة لما حدث وألمح -كما هي العادة- إلى ذلك الحديث السخيف عن المساعدات الأميركية لمصر. أما البعد الثاني في الموقف الأميركي فهو إغراق القاهرة بوابل من الزيارات بدعوى الوساطة، وأخيراً وليس آخراً الإصرار على ضرورة فض اعتصامات أنصار الرئيس المخلوع بغير عنف. وبإمعان النظر في الموقف السابق نجده مليئاً بالتناقضات، فما حدث يوم 30 يونيو 2013 لا يختلف في طبيعته عما حدث في 25 يناير 2011. ونذكر أنه في الحالة الثانية ترددت الإدارة الأميركية في الموافقة على تنحي مبارك -صاحب الشرعية القانونية- ولكنها بعد أن تأكدت من شعبية الثورة اضطرت للموافقة على ذلك فيما لم تفتح فمها بشأن أنصاره أو مؤسسات نظامه. أما الآن فقد رأينا تكرار الموقف نفسه (اعتبار ما حدث انقلاباً عسكرياً) إلى أن تم تعديله كما في حالة مبارك، وإن بذلت جهوداً محمودة من أجل الوساطة بين الطرفين المتصارعين في مصر، وهي مسألة غريبة بالنسبة للموقف الراهن فالثورات لا تقوم لكي تتفاوض مع من ثارت عليهم وإنما لبناء نظام جديد يلبي احتياجات الشعب. كما أن الإصرار على عدم استخدام القوة في فض اعتصامات «الإخوان» هو نوع من التعجيز. صحيح أن القوات المسلحة والشرطة لا تفكر بمنطق «الإبادة» ولكن ماذا لو أن المعتصمين استخدموا السلاح ضد قوات فض الاعتصام؟ هل المطلوب أن تتقبل هذه القوات سقوط الضحايا بين أفرادها دون رد؟ تبدو هذه التوجهات غريبة عن السياق العام للسياسة الخارجية الأميركية منذ مطلع التسعينيات وتفكك الاتحاد السوفييتي وفقدان الولايات المتحدة الخصم الرئيسي الذي تتحرك لمواجهته عجلة الصناعات العسكرية، ومن ثم يستمر انتعاش جماعات المصالح التي تقف خلف هذه الصناعات. وعلى الفور استبدلت الولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي الخطر الأخضر -أي خطر الإسلام عليها- بالخطر الأحمر الذي تم دحره! وجنباً إلى جنب مع هذا التوجه السياسي الجديد جرت محاولات فكرية للتنظير لهذا التحول، وكان الأشد بين هذه المحاولات جهد عالم السياسة الأميركي صامويل هنتنجتون وقد أصّل نظرية صراع الحضارات التي ذهب فيها إلى أنه بعد تفكك الاتحاد السوفييتي لن يعود الصراع الدولي بين دول وإنما بين حضارات، واختص الحضارتين الإسلامية والصينية بأنهما مرشحتان لتكونا في موضع الصدارة بالنسبة للصراع ضد الغرب، وهي نظرية فاسدة علمياً يسهل دحضها وإن كان هذا ليس هو المكان المناسب لذلك. ومع ذلك أعطى تنظيم «القاعدة» لها نوعاً من الصدقية في اعتداءات سبتمبر الشهيرة وتلا ذلك عديد من الاعتداءات على المصالح الأميركية في الخارج وبالذات السفارات بالإضافة إلى أنشطة أخرى جعلت منه بالفعل العدو الأول للولايات المتحدة بدليل ما يحدث من مواجهات أميركية مع مجموعات تابعة لتنظيم «القاعدة» وعناصره في الكثير من البلدان كما يحدث في أفغانستان وباكستان واليمن سواء كانت حكومات هذه البلدان متعاونة أو غير متعاونة. وقد ترتب على هذا مزيد من الكراهية للولايات المتحدة بين شعوب هذه البلدان بسبب العدد الكبير من الأبرياء الذين يسقطون في تلك المواجهات. وجنباً إلى جنب مع هذا التطور بدأت السياسة الأميركية تنظر إلى الإسلام السياسي غير الإرهابي نظرة مختلفة منذ أواخر السبعينيات وتحديداً بعد الثورة الإيرانية، وكان منطق هذا التغيير أن دولة بمكانة الولايات المتحدة لا يصح أن تجد نفسها فجأة في العراء بعيداً عن حلفائها المهمين، وبالتالي تفقد تأثيرها بالكامل في الدول التي تلعب دوراً مهماً في تحقيق المصالح الأميركية. وهكذا كان وضع نظام شاه إيران الذي كان بمثابة الذراع العسكرية لها في الخليج حيث المصالح الأميركية بالغة الحساسية. وكان من أوضح تطبيقات هذه الرؤية الأميركية الجديدة حوارات الإدارة الأميركية مع تنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر قبل ثورة يناير بكثير باعتبار أن هذا التنظيم يمثل أقوى جماعة معارضة للنظام في مصر، وكانت هذه الحوارات تتم تحت سمع وبصر النظام المصري ولكنه لم يكن يجرؤ على الاعتراض عليها لتبعيته للولايات المتحدة. وهكذا ضربت الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحد: حافظت على ولاء حليفها وأقامت جسوراً للحوار مع خصمه اللدود. وبالتالي لوحظ أن الولايات المتحدة لم تكن قلقة على الإطلاق من تولي «الإخوان» السلطة بل إن هناك من هواة نظرية المؤامرة من يعتقد أن الإدارة الأميركية تدخلت لدى المجلس العسكري الأعلى آنذاك الذي كان يدير المرحلة الانتقالية كي يضمن بأي وسيلة فوز مرشح «الإخوان المسلمين» برئاسة الجمهورية. واللافت أن الولايات المتحدة لم تشعر بأي قلق كذلك من تصرفات «الإخوان المسلمين» أو في ظل حكمهم وذلك كما في الاعتداءات المتكررة على أقباط مصر وكنائسهم وصولاً إلى موقفهم من التطورات الأخيرة في مصر على النحو المبيّن في بداية المقال. ويمكن بسهولة أن نرد هذا كله إلى تغير النظرة إلى الإسلام السياسي، ولكن التناقض في حالة السياسة الأميركية تجاه «الإخوان المسلمين» أنهم ليسوا مجرد تنظيم ينتمي للإسلام السياسي وإنما ثبت بما لا يدع مجالاً لأي شك أنهم تنظيم إرهابي لا يتورع عن استخدام السلاح تجاه المواطنين العزل كما أنهم وفق تصريح مسجل بالصوت والصورة لمحمد البلتاجي أحد القيادات الكبيرة للتنظيم ذوي علاقة وثيقة بالإرهابيين في سيناء ومنهم من ينتمي لتنظيم «القاعدة» بدليل ما قال إنه في اللحظة التي يعود فيها الرئيس المعزول إلى الحكم تتوقف كل الأعمال الإرهابية في سيناء. كما أن تنظيم «القاعدة» بدأ يظهر في المظاهرات المطالبة بعودة مرسي ويعلق لافتات كبيرة على كنائس الأقباط في مصر ناهيك عن علاقة «الإخوان» بـ«حماس» التي ما زالت الولايات المتحدة تعتبرها تنظيماً إرهابياً، أي أن الموقف الأميركي تجاه «الإخوان» لا يجد تفسيره فقط في تحول النظرة الأميركية إلى الإسلام السياسي، وإنما يتناقض هذا الموقف مع الحرب الشعواء التي تشنها الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وهو ما دفع البعض إلى القول إنه لابد أن تكون هناك مصلحة كبرى بين الولايات المتحدة و«الإخوان المسلمين» والاعتقاد بأن هذه المصلحة لابد وأنها تتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي وبالذات إعطاء حكم «الإخوان» تسهيلات في سيناء لتوطين عدد من اللاجئين الفلسطينيين. وسواء صح هذا أو غيره من التفسيرات فإن التناقض الراهن في السياسة الأميركية تجاه مصر يعني أن الولايات المتحدة تضحي بعلاقتها بشعب مقابل استمرار علاقتها بتنظيم.