تراجع كثير من المثقفين عن أحلامهم الوردية تجاه ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» الذي فشل فشلاً ظاهراً، ولكن البعض لم يزل يصرّ بطريقة هي أقرب إلى العناد على أن ما جرى في جمهوريات العالم العربي هو ربيع شعاراته الحرية والديموقراطية ولكنّ المتأمل للمشهد العربي بشكل شمولي وعامٍ يكتشف أن العكس هو الصحيح. أي ربيعٍ ذلك الذي تطغى عليه الجماعات الأصولية والأولويات الأصولية ويكون الجميع مجبراً على التعامل معها، لأنها لم تعد حركاتٍ تتحرك على هوامش الدولة بل صارت في مقدمة الحراك السياسي وتجاذبات مراكز القوى الدولية والإقليمية بكل ما يحمله خطابها من تخلفٍ وكراهيةٍ واستبداد. ليس من غرض هذا السياق التقليل من شأن ما جرى بمصر من إسقاط حكم جماعة «الإخوان» بتحالف القوى السياسية المدنية والمؤسسات الدينية كالأزهر والكنيسة والجيش المصري والقوى الشبابية والشعب المصري بغالبيته الساحقة، فذلك أمر يستحق الإشادة، ولكن ذلك لا ينفي أن هذه الجماعات أصبحت في واجهة المشهد السياسي والعام، وأصبح خطابها ورموزها محط أنظار الجميع ويشكل معطىً أساسياً في أي جدلٍ سياسي أو اجتماعي. ليس من باب المصادفة إطلاقاً أن تنتشر الجماعات الدينية المتطرفة في كل جمهوريات ما كان يعرف بـ«الربيع العربي»، بل هو نتيجة منطقية لصعود هذه الجماعات لسدة الحكم ودخولها للمشهد السياسي من أوسع أبوابه. في مصر هذه الجماعات تنشر الفوضى والعنف في سيناء، وفي برّ مصر بأكمله، بعضها دخل مرحلة التنفيذ والعمليات والتفجيرات والاغتيالات وبعضها ينتظر ساعة الصفر، وذلك حين تقوم قوّات الأمن والجيش بفض اعتصامات «رابعة العدوية» و«النهضة»، تلك التي يمارس فيها العنف بأبشع أشكاله حيث يتم تعذيب بعض الصحفيين وبعض المواطنين لمجرد الشك في أنهم لا ينتمون لجماعة «الإخوان» ولا يؤيدونها. في ليبيا تنشر الجماعات الأصولية الخراب والدمار وعمليات الاغتيال والقتل في تصاعدٍ مريعٍ وتكاثرٍ مريبٍ وهذه الجماعات تسعى عبر العنف لإثبات نفسها رقماً صعباً في مستقبل ليبيا، والأمر ذاته يجري في تونس حيث نمت وتكاثرت تحت جناح حزب «النهضة» مجموعات مسلحة تحترف الاغتيال والقتل والتخريب بعضها من المنتسبين للنهضة، وبعضها ممن يتقاطع معها في الخطاب والأيديولوجيا الأصولية، وإنْ لم يكن منتمياً لها تنظيمياً. الأمر ذاته يجري في اليمن، حيث الصعود الأصولي أكبر وأكثر ظهوراً، من جماعة «الإخوان المسلمين» الطامحة لسدة الحكم إلى تنظيم «القاعدة»، الذي يعيث فساداً في الأرض ولا يكتفي باليمن كهدفٍ والسفارات الأجنبية فيها، بل يخطط من هناك لنشر التخريب في المنطقة والعالم. وكذلك الحال بالنسبة إلى سوريا التي يواجه شعبها حرباً ضروساً من نظام الأسد وداعميه من روسيا إلى إيران، والتي أجبر الشعب على التسلح لمواجهة واحدة من أبشع الجرائم الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، وها هي الأزمة السورية تشعل الحرب العالمية الباردة الجديدة ومواقف الدول العظمى تدخل في صراع كسر عظمٍ على الأرض السورية، ولئن بدا أوباما متفاجئاً وهو يصف بوتين بأنه مثل «الطفل اللامبال الذي يجلس في آخر الصف الدراسي»، وأنه يستعيد تعبيرات الحرب الباردة، فإن ذلك لم يكن شأن مفكرين استراتيجيين أميركيين استطاعوا استشراف المستقبل قبل سنواتٍ عديدةٍ. من ذلك ما كتبه مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيجينيو بريجنسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» الصادر عام 1997، والتي استعرض فيها السيناريوهات التي قد تخلق محاور جديدةٍ منافسةٍ للقوة الأميركية في قيادة العالم، وقال فيه ما نصه: «إن السيناريو الأكثر خطورةً يتمثل في قيام تحالفٍ أكبر بين الصين وروسيا، وربما إيران أيضاً، وهو تحالف مضاد للهيمنة الأميركية لا توحّده الأيديولوجيا بل التذمّر المشترك»، وهذا تحديداً ما جرى في سوريا، وكان على الرئيس الأميركي ألا يكون متفاجئاً إلى هذا الحدّ، وأن يكون هذا السيناريو واضحاً أمامه أقله بعد عامٍ من استمرار الأزمة السورية. عوداً على ذي بدءٍ، فإنه على الرغم من أحقية الأزمة السورية بكامل الدعم الممكن والمتاح، فإن هذا لا يجب أن يجعلنا نغفل عن المخاطر التي تنشأ وتترعرع في الداخل السوري، فلئن كان نظام الأسد قد استخدم بوعي ورقة الجماعات الإرهابية منذ البداية لتشويه الرفض الشعبي العارم له، فإن هذا هو ما حصل، فالجماعات الإرهابية كتنظيمات «القاعدة» وأشباهها تجد في الرقعة السورية بيئةً جاذبةً للتكاثر والقتال، وها هم الإرهابيون يتوافدون على سوريا زرافاتٍ ووحداناً وسيكونون عبئاً كبيراً على سوريا الجديدة ما بعد الأسد. جماعة أصولية أخرى ستكون خطراً على مستقبل سوريا ألا وهي جماعة «الإخوان المسلمين» السورية، ومع استحضار اختلاف تجربة «الإخوان» في سوريا عن تجربة الجماعة الأم بمصر تجاه الجمهورية الإسلامية في إيران منذ قيامها 1979، وإلى اليوم من جهةٍ وتجاه دول الخليج من جهةٍ أخرى وتفاصيل أخرى لبسطها مجالٌ آخر إلا أنّ أحداث مصر الأخيرة ومواقف الإسلام السياسي التركي تجاهها وهو المقرب من جماعة «الإخوان المسلمين» السورية تثير الشك وتحرّك المخاوف في ظل ما تمّ تداوله إعلامياً في وقتٍ سابقٍ من أن جماعة «الإخوان المسلمين» السورية تخزن الأسلحة استعداداً لمرحلة ما بعد الأسد. ما تقوله كل هذه المعطيات هو أننا إزاء حقبةٍ أصولية تعود بنا إلى الوراء ولسنا إزاء ربيع حضاري يقودنا إلى الأمام، وحراك التاريخ ومعطيات الواقع ليست رهناً بأمانيّ بعض المثقفين ولا أحلام بعض الواهمين ولكنّهما محكومان بشروط موضوعية يستوجب الوصول لها الكثير من العناية والدرس، والبحث والتحليل، والجمع بين المؤتلفات والتفريق بين المختلفات والكثير من الوعي الذي تتطلبه مرحلة مضطربة في عمر الشعوب والحضارات والدول. إن شعوباً لم تزل تجترّ الأولويات الأصولية، ونخباً لم تزل تردد الشعارات الدينية في الشؤون المدنية والسياسية من شتى الفرقاء في جمهوريات ما كان يعرف بـ«الربيع العربي»، هي تسلك طريقاً مختلفاً عمّا سبق، ولكنّه بالتأكيد ليس سبيل الحرية والتقدم والرقي. أخيراً، فإن المشهد ليس معتماً بالكامل، فثمة وعي لم يزل يتشكل بخطورة الجماعات الأصولية من جماعات الإسلام المسلح إلى جماعات الإسلام السياسي، ولكن ذلك يحتاج لكثير من الجهد حتى يستقرّ ويصبح معطى ثابتاً يشكل انطلاقةً لمستقبل أفضل، وكل عام وأنتم بخير.