نص الدستور الهندي الذي تم تبنيه في 1950 في مادته 45 على توفير التعليم الإلزامي المجاني لكافة الأطفال ما بين سن 6-14. ومن هنا خصصت الخطة الخمسية الأولى للبلاد (1951-1956) نسبة 56 في المئة من ميزانية التعليم للإنفاق على التعليم الابتدائي والثانوي. غير الذي حدث هو تعرض الحكومات الهندية المتعاقبة إلى ضغوط من قبل الطبقات الغنية والمتوسطة للتركيز على التعليم العالي والمهني على حساب التعليم الأساسي، خصوصاً أن المهاتما غاندي كان قد وضع كتاباً سماه "التربية الأساسية" وتحدث فيه عن ضرورة توفير التعليم الذي يؤدي إلى تعلم مهنة ما، وهو ما يصبو إليه التعليم الأساسي. وهكذا صارت ميزانيات التعليم الأساسي في الهند تتناقص مقابل ارتفاع حصة التعليم العالي والمهني. ولئن أدى ذلك إلى امتلاك البلاد لجيش من المهنيين وخريجي المعاهد العليا في الحقول التقنية والهندسية والطبية، وشبكة ضخمة من الجامعات والكليات والمعاهد، فإن الضحية كانت الطبقات الفقيرة في الأقاليم النائية التي ظلت تعاني من الأمية. إذ لم يكن من الممكن محو الأمية مع استمرار الاستثمار الثابت أو المتصاعد في التعليم العالي والمهني، وبالتالي تجاوزت نسبة الأمية 30 في المئة إلى صفوف الرجال و45 في المئة في صفوف الإناث. وبمجيء أنديرا غاندي إلى السلطة في الستينيات عمدت حكومتها إلى تبني سياسات تعليمية جديدة بهدف تحسين نوعية الخدمات التعليمية وإيصالها إلى القطاعات المحرومة منها، ولاسيما الفتيات والسيدات، مع تحديد أساليب التغلب على المعوقات المحتملة كزيادة معدلات السكان، ونقص الأموال، وتوفير المعلمين الأكفاء، وتباين لغة التعليم من ولاية إلى أخرى، وبعض العادات الاجتماعية المرذولة. لكن سياسات غاندي لم تنجح إلا نسبياً بسبب ضخامة التحديات التي واجهتها. وهكذا ظلت الأمور تراوح مكانها إلى أن أشرقت شمس العقد الأخير من القرن العشرين حينما دشنت البلاد انفتاحها الاقتصادي، وهو ما ساهم في تحسن الأحوال المعيشية لمئات الملايين من الهنود، وبالتالي قدرتهم على توفير التعليم المناسب لأطفالهم بعيدا عن المدارس الرسمية، ليحل مكان هؤلاء الأطفال من لم يكن بوسعهم الحصول على التعليم الأساسي بسبب الفقر والحاجة. كما أن هذا التحول المثير في تاريخ الهند المعاصر كان، من ناحية أخرى، سبباً لاستثمار القطاع الخاص في التعليم بمستوياته المختلفة، وانضمام مؤسسات المجتمع المدني لرفد جهود الدولة في مكافحة الأمية، ناهيك عن تلقي الهند من البنك الدولي ووكالة التنمية الدولية والاتحاد الأوروبي لائتمانات مالية بمئات الملايين من الدولارات من أجل تنفيذ برامج تعليمية وتربوية تشمل مختلف المراحل ويستفيد منها السواد الأعظم من الناس، مع الاهتمام بجودة المحتوى وأساليب التدريس وبيئته. ولما كانت هذه المساعدات التربوية وما شابهها لا تأتي من الخارج إلا بعد تعهد المتلقي بتوفير جملة من الاشتراطات، والقبول بعدد من المبادئ الأساسية المقررة من قبل الأمم المتحدة. ولما كان الحق في التعليم المنصوص عليه في الدستور لا يكون حقا ذا معنى إلا إذا توافرت له سمات أساسية مثل: أن يكون التعليم مجانيا، وممولا من قبل الدولة، ومتاحاً أمام الجميع دون تمييز، ويجري في بيئة آمنة، ومن خلال بنية تحتية جيدة، وعلى أيدي معلمين أكفاء. أن يكون ذا نوعية جيدة ومناسبة للمتلقي، وقابلا للتطور مع الاحتياجات المتغيرة للمجتمع، ومتلائما مع السياقات المحلية. أن يرافقه احترام المتلقي وحمايته والوفاء بمتطلباته من قبل الدولة باعتبارها المسؤول الأول عن العملية التربوية أن يلتزم المتلقي ــ أو أسرته ــ بدوره في الالتزام بالنظام والقانون ومتطلبات المنهج الدراسي. فإن المشرع الهندي وجد نفسه مضطراً في عام 2010 إلى إحداث تعديلات على المادة 45 من الدستور ليصبح أكثر وضوحا وشمولية وتماهياً مع المتغيرات العالمية. وبموجب تلك التعديلات صار لجميع الأطفال الهنود في المراحل العمرية ما بين 6-14، ولاسيما ذوي الأحوال المعيشية الصعبة وذوي الاحتياجات الخاصة، الحق في التمتع بالتعليم المجاني كحق من حقوقهم الأساسية بهدف تأسيس المواطن القادر على خدمة نفسه، والنهوض بمجتمعه وأمته في الحقول المعرفية المختلفة، وتطوير الحياة بالاستفادة من ثمرات التقدم العلمي وتطبيقاته. ليس هذا فحسب بل إن التعديلات تنص على أنه في حالة لم يستطع الطالب الوصول إلى مدرسته لأي سبب فإن المدرسة ستنتقل إليه، وأن المبنى المدرسي يجب أن يكون مقاوما لمختلف الظروف المناخية، ومزودا بالحاجات الأساسية كدورات المياه والكهرباء ومياه الشرب الصالحة ووسائل الإيضاح والمختبرات والصفوف الدراسية المريحة والمدرسين الأكفاء بأعداد تتناسب وأعداد الطلبة. فوق ما سبق ذكره، تم إلحاق التعديلات بخارطة عمل مدتها 3 سنوات من أجل رصد نجاح التجربة من عدمه. وبما أن السنوات الثلاث قد انقضت، فإن الموضوع عاد إلى الواجهة مؤخراً ودارت حوله سجالات في وسائل الإعلام ما بين قائل إن التشريع حقق نجاحات ملموسة في صورته الراهنة، وآخر يطالب بإدخال المزيد من التعديلات والضوابط عليه من وحي ما أفرزته التجربة في السنوات الثلاث الماضية. والحقيقة أن الأرقام والإحصائيات السنوية الرسمية تؤكد أن نسبة الطلبة المنخرطين في التعليم النظامي في الهند ارتفعت بمجرد دخول التعديلات آنفة الذكر حيز التنفيذ في 2010 إلى أكثر من 96.5 في المئة من بعد أن كانت هذه النسبة لا تتعدى 93 في المئة عام 2005. ويعزي بعض المراقبين هذه الطفرة إلى تقيد الحكومة بما شرعته، وخصوصا توفير المدارس اللائقة وتزويدها بما تحتاج إليه وتوفير وجبات مجانية للطلبة والإنفاق على مواصلاتهم من وإلى محال إقامتهم، الأمر الذي يمكن اعتباره بحق ثورة تعليمية في بلد لطالما وصفت بنيته التعليمية الأساسية بالضعيفة والمتهالكة. لكن يبقى السؤال الذي تتباين حوله الآراء! هل تحقق للهند ما أرادته من وراء سن هذا التشريع وهو إيصال حق التعليم الأساسي إلى أكبر عدد من المواطنين؟ هناك مؤشرات تقول إنه على الرغم من زيادة نسبة الطلبة الملتحقين بالمدارس بعد عام 2010، فإن عدد المتسربين ممن لم يكملوا ثماني سنوات دراسية متواصلة في ارتفاع. أما السبب فيعزيه المختصون إلى صرامة المدارس الهندية ومناهجها الأمر الذي غالبا ما يتسبب في رسوب الطالب لسنة أو أكثر فيصاب بالإحباط ويفقد معه الدافع للاستمرار في دراسته. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين