الحياة امتحاناتها كثيرة، وعطاءاتها أيضاً كبيرة. وهناك أناس تُغدق عليهم الأيام بوافر النعم، لكن هناك أيضاً من تحرمه الأيام متعة الصحة التي هي تاج على رؤوس الأصحاء لا يُدركه إلا أصحابها. منار منير الصغير، هو شاب يافع في الثامنة والعشرين من عمره، شاء القدر أن تُجرى له عملية جراحية بالعمود الفقري بأحد مستشفيات لندن قبل إحدى عشرة سنة، ليخرج من المستشفى على كرسي متحرّك، بعد أن فقد قدرته على المشي بقدميه من جديد. إعاقة منار الجسدية لم تمنعه من تكملة دراسته، حتّى حصل على شهادة البكالوريوس في علوم الحاسب من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ويلتحق بعدها للعمل في شركة (أرامكو) أكبر شركات البترول في العالم العربي، ويعمل موظفاً في قسم التدقيق الداخلي. هذا الشاب يؤكّد بأن من أهم العوامل التي ساهمت في نجاحه، هي قدرته على التصدّي لإعاقته بالتحدّي والإصرار والعزيمة التي يتحلّى بها، إلى أن استطاع تجاوز محنته وتأسيس دعائم مستقبله، معترفاً بأن وقوف والديه إلى جواره كان له دور كبير في الوصول لما يصبو إليه، لدرجة أنه أصبح يقود سيارته بنفسه التي جهّزها له والده بمواصفات تُلائم وضعه الصحي ليقضي بها حوائجه. قصة منار نسمعها كل يوم تقريباً وإن كانت بأسماء وأعمار متباينة، لكن الاختلاف الحقيقي ينبع من أن هناك معاقين دفنوا أنفسهم أحياء بحجراتهم، لعدم قدرتهم على مواجهة ظروف إعاقتهم، وأوقفوا عقارب الساعة عند لحظة إصابتهم وأعلنوا موتهم وهم أحياء يُرزقون. وهناك معاقون رفضوا الاستسلام لوضعهم، وتحدّوا ظروف إعاقتهم بالإصرار والعزيمة، وواجهوا مشكلتهم بشجاعة. ألتمس العذر لذوي الاحتياجات الخاصة حين ينطوون على أنفسهم، ويضعون سياجاً حول حياتهم، ويُقررون الابتعاد عن الناس، وهذا يعود للأسف إلى نفورهم من نظرات الشفقة والعطف التي تنظر بها مجتمعاتنا للمعاق، لذا يجب أن تختفي هذه النظرات التي ترميها الأغلبية في وجوه المعاقين حين يقع نظرهم عليهم، كأنهم فئة ليس لها حق في ممارسة حياتها بطريقة طبيعيّة! كما يجب على الآباء أن لا يخجلوا من إعاقات أبنائهم، ومن تعوّد السفر إلى أوروبا سيجد بأن الأم تحرص على اصطحاب ابنها المعاق إلى الأماكن العامة لترفه عنه بأيام العطل، وكي يتعوّد على الاندماج مع كافة أفراد المجتمع. أغلبية البلدان العربية بدأت في السنوات الأخيرة، الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة، لكن لم تصل سبل الرعاية للمرحلة التي وصل إليها الغرب في تعامله مع هذا الفئة من توفير وسائل مريحة، وإفساح المجال لهم في مجال التعليم أو في خدمات التوظيف. وللأسف ما زالت أغلبية المؤسسات الحكومية والأهلية بعالمنا العربي، لا تُرحّب بتوظيف المعاقين جسديّاً بحجة أنهم غير مؤهلين للعمل! الحياة مطباتها كثيرة، وتجاربها أحياناً تكون من القسوة بحيث تهز الأرض من تحتنا، وتجعلنا نذرف الدمع مدراراً على تقلّب أحوالنا، لكن أرى بأن تجربة الشاب منار يجب أن تكون درساً مفيداً، ليس فقط لذوي الاحتياجات الخاصة الذي فقدوا الأمل في بناء مستقبل واعد لهم، وإنما كذلك للأجيال الصاعدة التي يجب أن تُدرك بأن تحقيق الأماني يحتاج إلى إرادة حديدية، وأن المرء يستطيع أن يصل إلى ما يُريد وإن أصبح عاجزاً عن الحركة، وفقد القدرة على ممارسة حياته بطريقة طبيعيّة. صحيح في عالمنا العربي لدينا مشاكل لا حصر لها، لكن الأولوية يجب أن تكون للإنسان الذي يعيش على كوكب الأرض، دون أن تضطره ظروف إعاقته إلى الانزواء ولفظ أنفاسه وحيداً، لأن مجتمعه يرفض أن يعترف بحقه في الحياة.