على رغم كثرة الكتب الغربية المتعلقة بالثقافة العربية الإسلامية وكيفية المواءمة بينها وبين الديمقراطية كمفهوم مستمد أساساً من تقاليد الثقافة الغربية، إلا أن الفكرة السائدة عادة لدى الجمهور العريض في المجتمعات الغربية تستند على حزمة طويلة عريضة من الصور النمطية السلبية عن الإسلام والثقافة الإسلامية تجعلها في تعارض، أو تناقض مع الديمقراطية، وعلى ذلك يتأسس أيضاً كثير من التفسيرات المعلبة والجاهزة لظاهرة ما يسمى الاستعصاء الديمقراطي في المجتمعات العربية الإسلامية، واستعصاء اندماج وتكيف الجاليات المسلمة في الغرب نفسه. ولكن هل ثمة حقاً تعارض حقيقي بين الإسلام والديمقراطية؟ وإذا لم يكن مثل هذا التعارض موجوداً فلماذا يخفق معظم محاولات التحديث الديمقراطي في المجتمعات المسلمة، أو على الأقل لا يصل إلى سقف التوقعات المستهدفة منذ البداية؟ وأكثر من هذا، لماذا لا تتسع الصدور في بعض مناطق العالم الإسلامي لثقافة التعددية في الرأي، واحترام حقوق الأقليات، وحرية النقد والتعبير؟ وهل الخوف من استعادة ذكريات بعض أصعب أحداث التاريخ وتوازنات قوى السياسة ورهاناتها هي ما يجعل كثيراً من المجتمعات المسلمة تتوجس سلفاً من كل ما من شأنه تهديد وحدة المجتمع، وتمزيق نسيجه ولحمته الجامعة، وعوامل توحيده القيمية والثقافية، ومن هذا المنظور ما يمكن أن تفتحه عليه الديمقراطية من هرج الاختلاف، والخلاف، والتفكك، والتفسخ، وغير ذلك من سلبيات، تجعل الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات حاضرة في الأذهان كلما تعلق الأمر بالديمقراطية وجميع متعلقاتها الذهنية والسياسية؟ هذا ما يثيره كتاب «الإسلام أمام الديمقراطية" للكاتب وعالم الاجتماع الفرنسي «فيليب ديريبارن»، الذي يحاول في بدايته تقديم تصور مبدئي عن موقف الإسلام ونصوصه الدينية المؤسسة من الديمقراطية، كما يبرهن على أن الفلسفة الإسلامية الأولى كانت فكراً منفتحاً، يتبنى أرقى أشكال التعددية في الرأي والحرية في التفكير، في وقت كان فيه التعصب والأحادية والرؤى الاختزالية هي عنوان المرحلة في الغرب الوسيط. والحال أن هذا الكتاب، كما يقول بعض من كتبوا عنه، يثير بشجاعة موضوعاً بالغ الصعوبة والحساسية، حيث ينطلق مؤلفه من أعماله السابقة في مجالات مختلفة من علم الاجتماع، لجعل قراءته لعلاقة الإسلام والديمقراطية ذات أساس منهجي ومعرفي بعيداً عن اجترار الأحكام المسبقة السائدة والصور النمطية الغربية التقليدية. وهو إلى جانب ذلك يقدم الفضاء الديني عموماً باعتباره عاملاً تفسيرياً لميكانيزمات وتحولات المجتمع، منطلقاً في ذلك من افتراض أن «الأديان إن لم تكن هي كل شيء في هذه التحولات فلا يمكن على الأقل اعتبارها لا شيء» (ص38)، أي أنه لا يمكن النظر إليها كعامل ثانوي، أو مكون عرضي. ولكن الدين المشار إليه هنا هو دين مجتمع التيار الرئيس المعتدل، وليس تأويلات الجماعات المتطرفة، ولذلك يتساءل الكاتب: لماذا يستمر بعض أكثر القوى ظلامية، من الجماعات المحسوبة على الإسلام، في لعب أدوار محسوسة في كافة محاولات أسلمة الديمقراطية، أي تبيئتها؟؟؟؟؟؟؟ في الثقافة الإسلامية؟ ليجيب على ذلك بتأكيد أن وجود مثل تلك الجماعات يبقى عائقاً من عوائق ترسيخ الديمقراطية في المجتمعات المسلمة، لأنها منافية لها في آليات التفكير وفي طرائق تدبير الشؤون العامة، كما أن تزمت تلك الجماعات وتشددها يجعلانها غير جاهزة لقبول الرأي المختلف أو تبني روح الحوار، ومن هنا فإن «مصاعب العالَم الإسلامي في إنعاش ديمقراطية تعددية منفتحة منشؤها عدم اليقين والحوار» المشوش، (ص 173) وعدم وضوح الرؤية لدى شرائح من المنخرطين في السجال السياسي بشأن التجديد والتحديث والتغير الاجتماعي والسياسي. ويرى الكاتب أن أي تجديد سياسي في المجتمعات الإسلامية لابد أن ينبع أولاً وأخيراً من ثقافتها المسلمة الخاصة، وذلك كما يقول في آخر كتابه لأن «غرباً متسماً بفقدان المرجعيات والقيم» (ص 182) ليس في موقع يسمح له بمساعدة العالم الإسلامي على إيجاد إجابات على أسئلة مصيرية ذات أهمية استثنائية بالنسبة له كقضية مكانة الأقليات وحقوقها مثلاً، وكذلك حدود وطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع. كما أن مقاربة الثقافة الإسلامية لعلاقة الدين بالسياسة ونظم تسيير الشأن العام مختلفة كثيراً عن التصور الثقافي الغربي، الذي تطور، أو بكلمة أدق تغير خلال قرون مديدة، استناداً على خصوصيات تاريخية أوروبية، ليس بالضرورة أن يتم إسقاطها على ثقافة المجتمعات المسلمة ذات الخصوصيات التاريخية المختلفة، وذات الذاكرة المتخففة أيضاً من كثير من جراح الماضي الغربي المرير. وفي المجمل فإن هذا الكتاب يسعى للبرهنة على أن الديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام إن أخذت بمعناها الإنساني والسياسي الصحيح الذي يراعي خصوصيات كل مجتمع وثقافة، ويترك لهما أيضاً فرصة بناء مسارهما الديمقراطي التجديدي بحسب ما يريان وبما يكونان عليه من حال. حسن ولد المختار الكتاب: الإسلام أمام الديمقراطية المؤلف: فيليب ديريبارن الناشر: غاليمار تاريخ النشر: 2013