حين أنظر في حال تونس الآن أستعيد أديبها الكبير الراحل محمود المسعدي، وأرى في فنه وفكره وفكر وفن تلاميذه واضرابه ما يقي بلده الجميل مما آل إليه. فبقدر عمره المديد الذي استمر إلى ثلاثة وتسعين عاماً جاء عطاء المسعدي. فالرجل، كان مؤسسة كاملة تمشي على قدمين، وجزءاً مهماً من التاريخ السياسي والاجتماعي لبلاده، وعلامة على الهوية الوطنية التي حاول الاستعمار الفرنسي أن يبددها، من دون جدوى. ففي الأدب، تمرد المسعدي منذ البداية على الأشكال التقليدية للكتابة، فجاءت مسرحيته -روايته «السد» عابرة للأنواع الأدبية، من خلال توسلها بما جادت به فنون المسرح والقصة والشعر، وعبر مزجها بين البناء العقلي والعطاء الوجداني، الأمر الذي جعل أديباً ومفكراً عظيماً بقامة طه حسين يقف عندها، ويقرأها مرتين قبل أن يصفها بأنها «قصة تمثلية رائعة، ولكنها غريبة كل الغرابة، كتبها صاحبها لتقرأ لا لتمثل ولتقرأ قراءة فيها كثير من التدبر والتفكير والاحتياج إلى المعاودة والتكرار ... وهي بأدب الجد العسير أشبه به من أي شيء آخر... وضع فيها الكاتب قلبه كله وعقله كله وبراعته الفنية وإتقانه الممتاز للغة العربية، ذات الأسلوب الساحر النضر والألفاظ المتميزة المنتقاة... إنها قصة فلسفية كأحق وأدق ما تكون الفلسفة وتستطيع كذلك أن تقول، إنها قصة شعرية كأروع وأبرع ما تكون ولا غرابة في ذلك ، فما أكثر ما يلتقي الشعر والفلسفة». وبعد «السد» التي صدرت عام 1955، توالت أعمال المسعدي، مثل «حدّث أبو هريرة قال» (1973)، و«مولد النسيان» (1974)، و«ثم على انفراد» (1976)، ونشر مجموعة مقالات في الفلسفة والأدب في كتاب بعنوان «تأصيلا لكيان»، كما ترك المسعدي أعمالا أخرى باللغة الفرنسية منها «الإيقاع في السجع العربي»، وهي أطروحة دكتوراه لم ينل درجة علمية عنها لظروف الحرب العالمية الثانية، وأخيراً كتاب وسمه بـ«من أيام عمران وتأملات أخرى» عام 2001 جمعه الكاتب التونسي محمود طرشونة، من قصاصات ورقية متتابعة كان المسعدي قد كتبها في أيامه الأخيرة، وأهمل، كعادته نشرها. وقد ترجمت معظم رواياته إلى اللغتين الفرنسية والهولندية. ولم يكن المسعدي، الذي كان يرى أن الكتابة عند الرجل تعويضاً له عن حرمانه من تجربة الولادة عند المرأة، متلهفاً على نشر ما يكتب، فـ«السد» التي أبدعها عام 1939 لم تر النور سوى عام 1955، إذ ظل طيلة ستة عشر عاماً ينقحها، يحذف ويضيف ويعيد الصياغة، حتى وصلت إلى مستوى يرضي طموح المسعدي، ويبهر طه حسين حين عرضت عليه. أما «حدث أبو هريرة قال» فقد ظل المسعدي ينتظر رأي عميد الأدب العربي فيها ثلث قرن كامل، لكنه لم يرد أو يعلق على النص، كما سبق أن فعل مع «السد»، حتى وافته المنية عام 1973، فدفع المسعدي عمله الأدبي الجميل إلى المطبعة، وهو موقف يفسره نبيل فرج الذي أصدر كتاباً يحوي الرسائل المتبادلة بين طه حسين والمسعدي قائلاً: «أغلب الظن أن عميد الأدب العربي كان يريد للكاتب الشاب حينئذ أن يكمل مبادرته الإبداعية بجسارة النشر التلقائي من دون سند». وتسعى أعمال المسعدي إلى تعزيز الإرادة البشرية وتفجير الطاقات الكامنة في الإنسان، من منطلق أن الإرادة هي التي تحرك أبطال أدب المسعدي، وتدفعهم إلى تحدي الظروف السائدة، وابتكار وسائل للتغلب عليها. وتكشف هذه الأعمال عن تأثير عميق للقرآن الكريم الذي حفظه المسعدي منذ طفولته المبكرة، في تكوينه الفكري والوجداني والأسلوبي، وتبين كيف نهل من الأدب العربي القديم، حين درسه بعمق في المرحلة الثانوية، والآداب الأوروبية الحديثة، حين سافر إلى باريس للحصول على الدكتوراه من جامعة السوربون. وعلاوة على ذلك فإن أدب المسعدي يضرب مثالا بليغاً على أن لغتنا الفصحى هي مرآة شخصية الفرد الذي يكتب بها، وانعكاس لذهنية المجتمع والعصر في سماته الفكرية والخلقية. وأعمال المسعدي غير تقليدية، تعبر الأنواع في سلاسة، لتمزج الشعر بالنثر، وتعدو بين المسرح والرواية، متجاوزة أي فواصل بينهما، وتقتبس من التراث العربي الشكل القصصي القديم كالحديث والمقامة والسيرة، وتنهل من الآداب الأوروبية الحديثة، في ثوبها الجديد الذي فارقت به أعمال الرعيل الأول من الروائيين والمسرحيين المؤسسين الكبار، ثم تمزج الخيال الخصب بالتفكير العقلي، وتضفر الحدس الإبداعي بالبرهان الفلسفي في أعلى صوره. ولم يكتف المسعدي، الذي رأى النور بقرية تازركة من أعمال نابل في يناير من عام 1911، بالكتابة، بل زاول أدواراً حركية مؤثرة من خلال السياسة والتربية على حد سواء. ففي السياسة تقلد في سنوات الاستقلال الأولى عدة مناصب مهمة، إذ عهد إليه من 1958إلى 1968 بوزارة التربية القومية، وانتخب عضواً بمجلس النواب في أواخر الستينيات، ورئيساً لمجلس النواب عام 1981. وفي التربية تولى مسؤولية شؤون التعليم في حركة الاستقلال الوطني التي انتظم في صفوفها مناضلاً ضد الاستعمار الفرنسي، كما لعب دوراً قيادياً في العمل النقابي للعاملين في المهن التعليمية. وخلال توليه وزارة التربية القومية وضع اللبنة الأولى في أساس الجامعة التونسية. وقبلها، كان قد تمكن من إقرار حق كل طفل تونسي في التعليم، وكان له جهد ملموس في أنشطة منظمتي «اليونسكو» و«الأليكسو» و«مجمع اللغة العربية»، كما أشرف على مجلة «المباحث» عام 1944، ثم على مجلة «الحياة الثقافية» عام 1975، وقام بتدريس الأدب العربي في جامعات تونس وفرنسا. وخلال هذه المسيرة تميز المسعدي، حسب ما جاء في نعي وزارة الثقافة التونسية له، بوطنيته العالية وتجذره العميق، وحرصه الشديد على الارتقاء بالفكر التونسي إلى أعلى درجات النبوغ والمساهمة من خلاله في إثراء الثقافة العربية والإنسانية. مات المسعدي، لكن تونس بحاجة ماسة في وقتنا الراهن إلى فكر وفن أمثاله حتى تخرج من أزمتها الراهنة.