لا ينقص هذا الجيل أي نوع من أنواع التعليم والمعرفة، فاختراع الوسائل التقنية الحديثة وضعت العلوم في فم المستهدف من دون الحاجة إلى ملعقة الذهب. ومع ذلك لم يعد كل هذا التطور والتحديث كافياً لكي يمارس جيل المستقبل حياته الحقيقية دون منغصات أو عقبات أو عراقيل لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، لأنها جزء مهم من الحياة الإنسانية. نثير هذا الموضوع لجيل المخضرمين، الذي تعلم في مرحلة الـ«كي. جي. 1» و«كي. جي. 2» في الكتاتيب، قبل الولوج إلى المرحلة الابتدائية، ولم يكن حين ذاك إلا مرحلة ما قبل الابتدائية متعارفاً عليه إلا من الدراسة التقليدية الرصينة مع "المطوع" أو "المطوعة" التي كانت في نهاية كل أسبوع تحتفل معنا بالخميسية، حتى نصل إلى مرحلة إتقان قراءة القرآن ومبادئ الكتابة الأساسية، ومن ثم الحساب أو الرياضيات للمبتدئين، وحديثاً هذا ينطبق على وجه الدقة في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، لمن واصل مشواره وفق المتاح من سبل التعليم. وفي الواقع كانت الكتاتيب تعلمنا الحياة في بداياتها قبل أن نتعلم منها القراءة والكتابة، خاصة أن معلمينا في تلك الفترة كانوا من كبار السن رجالاً ونساء، فما تعلموه في حياتهم العملية كانوا يغرسونه في قلوبنا قبل عقولنا بالقدوة الحسنة والممارسة العملية على مدار اليوم، فالعادات والتقاليد وكل ما يتعلق بـ«السنع» تم إرضاعنا بها قبل أن نشب عن الطوق، فنهلنا من ذلك الكثير الذي لم ينس أبداً لأنه كان نقشاً في الصدور،، وغرساً في العقول البيضاء من غير سوء. وما يفتقده أبناؤنا وأحفادنا اليوم هو الاستفادة من معلم الحياة الذي يغرس في عقول وقلوب الأبناء الأصالة التي تأبى الزعزعة مهما تعرض الشاب إلى كل أنواع المغريات التي يصعب على البعض تجاوزها أو التأثر بها بسهولة، إلا أن وجود معلم الحياة الذي قد لا يعرف أن يخط حرفاً، أو يجمع رقماً مع آخر وفقاً للتعليم المعاصر إلا أنه يمارس كل بطريقته الخاصة، فهو في عرف التعليم المعاصر أمي الحرف والرقم، إلا أنه في عرف الحياة الصحيحة هو المعلّم الأول الذي كنا نستقي منه كل حاجاتنا اليومية إلى الحركة في المجتمع، سواء كنا نتعامل مع شيوخنا الكرام، أو أي فرد عابر بأرض الوطن، فكان الاستعداد للتعامل مع الجميع حاضراً لا يغيب وإنْ غاب شيء إن ذلك سهواً أو عمداً، فإنك تجد من معلمي الحياة من يعيدك إلى رشدك العملي دون أن يخدش التوجيه مشاعرك أو يعرضك إلى الحرج أمام الملأ. فهذا النوع من التعليم وهذه النوعية من المعلمين صار أندر من الندرة ذاتها في وقت نحن أحوج إليهم كجزء مهم من تخطي الشاب المتعلم، وفق المنظومة المعاصرة التي لم تصل إلى الآن إلى مرحلة تعليم الشباب الحياة ذاتها، وإن علمتنا وعلمت أبناءنا المهارات، فهذه كلها لا تعني أنك فقهت التعامل مع الحياة التي فيها من المكابدة الشيء الكثير، لأن التقنية والعلوم مهما تطورت آلياتها إلا أنها لا تعلم الشباب كيفية الحياة وطريقة مواجهة كافة الصعاب التي لا تتعلق لا بالتقنية، بل بالنفس الإنسانية التي بحاجة إلى خبير كابد رحلة الحياة بكل صعابها، فهو المنقذ الفذ لما يعانيه الكثير من شبابنا في هذا العصر في طريقة تعاملهم مع الأشياء المادية والمعنوية، فالقليل منهم يسلم والكثير منهم يقع في مطب تلو الآخر، ولا يعرف المخرج منه إلا بعد فوات الأوان.