بعد أكثر من عامين من الثورة، لا يزال هذا النظام السوري باقياً بالرغم من شرعيته المشروخة! فلماذا وكيف؟ معرفة الإجابة تتعدى الحالة السورية لتلقي الضوء على عملية التغيير في المنطقة العربية وللإشارة إلى ضرورة تلافي عثرات الطريق. من أهم توجهات الإبداع العلمي في البحث التاريخي حالياً هو التوجه القائم على التساؤل: «ماذا لو؟». فمثلاً ماذا ذا لو لم تتم هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية؟ وماذا لو لم تنته الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والكتلة الشرقية بتلك السلمية، وذلك الحسم اللذين ميّزاها؟ وماذا لو لم تحدث أو تنجح ثورة الخميني في إيران؟ وتطبيقاً لهذه المنهجية الإبداعية، نتساءل بدورنا: ماذا لو أن أحداث «الربيع العربي» كانت قد بدأت بالثورة في سوريا بدلاً من تونس، ثم تعثرت كما تتعثر الآن؟ هل كنا سنرى نهاية للأنظمة السلطوية لكل من القذافي وعلي صالح وبن علي ومبارك؟ أو هل كانت لتكون نهاياتهم بتلك السهولة التي رأيناها؟ بمعنى أوضح، وتطبيقاً مباشراً لهذا التوجه الجديد في تتبع مسيرة التاريخ؛ لماذا انهار الآخرون، بينما يستمر نظام الأسد؟ نظام الأسد لا يقل استبداداً عن تلك الأنظمة، وإن كان يقل شرعية عن الكثير منها. فالقذافي مثلاً - وهو الأكثر وحشية - وصل إلى الحكم في عام 1969 عن طريق انقلاب عسكري ضد الملكية الليبية العجوزة والعاجزة، وأعلن النظام الجماهيري الذي كان له صدى شعبي كبير في نهاية الستينيات، على مستوى الداخل الليبي وعلى المستوى العربي. وفي تونس، جاء ابن علي عن طريق النظام القائم، وما سميّ حينئذٍ «انقلاباً دستورياً» في سنة 1987 ضد رئيس انتهت صلاحيته العمرية، ويُقال إن أجزاءً كبيرةً من أعضاء جسمه كانت تعمل بالبطاريات والتدخلات الطبية. أما في مصر، فقد أتى مبارك إلى الحكم سنة 1981 بعد اغتيال السادات، وبعد أن تدرب في دهاليز السلطة لمدة ست سنوات نائباً لرئيس الجمهورية، وكان من الطبيعي أن يحل محل الرئيس الذي تم اغتياله. أما بشار، فلا يتمتع بأي من أساسيات الشرعية تلك. نعم، لقد وصل إلى الحكم عبر «شرعية دستورية» شكلية تم طبخها على عجل ودون أي مؤهلات واضحة؛ لأنه ابن الرئيس حافظ الأسد، الرئيس الذي هو نفسه وصل إلى الحكم في سنة 1970 عن طريق انقلاب عسكري. إن عملية توريث الحكم في سوريا، البلد الذي يُسمَّى «جمهورية» ويُدار كأنه ملكية، هي ما يجسد التعبير الجديد في علم السياسة العربي وممارساته، أي «الجملكة». السؤال المهم إذن، الذي ينبغي مواجهته: لماذا يصمد نظام مثل نظام الأسد بالرغم من شرعيته المشروخة تلك؟ ولماذا ينجح نظام في الاستمرار بالرغم من قتله أكثر من 100 ألف من مواطنيه، وتشريد أكثر من مليونين بين نازحين في الداخل ولاجئين في الخارج، وتدمير البنية التحتية التي ستأخذ أعواماً لإعادة بنائها؟ هذا سؤال مهم يجب أن نواجهه بكل صراحة حتى نقوم بالتشخيص السليم لمقومات الحكم السلطوي ومعوقات المستقبل. سأقتصر على ثلاثة أسباب رئيسية لفتح باب النقاش، وقد يرى القراء والزملاء أسباباً أخرى تُضاف إليها؛ لأن معرفة الإجابة عن هذا السؤال لا تؤثر على مستقبل سوريا فقط، بل على مستقبل المنطقة ككل، وحتى على نظرة الآخرين إلينا، ولذلك فإن تجاهله يؤدي إلى إجهاض كثير من رهانات «الربيع العربي»؛ فلماذا إذن يبقى الأسد؟ أولاً: قوة وآليات البناء السلطوي تحت إمرة بشار. هذا هو في الواقع العامل الذي يتكرر بكثرة في الداخل كما في الخارج، وبالرغم من صوابه وصحة وجوده، فإنه لا يناقض التجارب السابقة في انهيار النظم السلطوية العتيدة، من الاتحاد السوفييتي إلى شاه إيران إلى ليبيا القذافي... بمعنى أنه كانت هناك نظم أكثر سلطوية من نظام بشار، ولم تحمها آليات القمع التي تملكها من الانهيار. ثانياً: التأييد الخارجي، وهذا في الواقع عامل أكثر أهمية؛ لأن تأييد نظام الأسد امتد من موسكو إلى طهران إلى وجود قوات من «حزب الله» في الداخل السوري. وقد تعددت أوجه التأييد والدعم الخارجيين: من دبلوماسي، إلى مالي، إلى عسكري، مباشر وغير مباشر. لكن التأييد الخارجي كان موجوداً كذلك لدى المعارضة، التي تمتعت على الصعيد العالمي بتأييد أكبر أدى إلى عزل النظام السوري، ووجود عواصم مفتوحة لها مثل باريس، واشنطن، ولندن، وأنقرة، وبعض العواصم العربية المهمة. صحيح أن الدعم العسكري للمعارضة لم يكن بالمستوى نفسه. ومع ذلك يبقى السؤال: لماذا لم يتم استثمار الموجود منه على الوجه الأمثل؟ وكيف لم يتم الوصول إلى سبل التأييد الأخرى، إقليمياً ودولياً؟ ثالثاً: عدم ظهور البديل القوي لنظام الأسد، وهذا في الحقيقة سبب أساسي يجب مواجهته بصراحة شديدة ونزاهة. فهناك تعثر تجارب «الربيع العربي» من مصر إلى اليمن التي قد يستخدمها البعض لإقناع المترددين بقبول الأسد. ثم هناك ضعف المعارضة السورية نفسها وانقساماتها المتعددة، وحتى سهولة خطف ثورتها بواسطة عناصر تكفيرية، بعضها يأتي من الخارج، علاوة على مثالب الحشود الثورية على الأرض. ثم لماذا مثلاً لم نسمع عن إنشاقات أكثر داخل الجيش أو من الجهاز الدبلوماسي، كما حدث مثلاً مع البعثات الدبلوماسية الليبية في الخارج؟ التحليل العلمي والعقلاني لإخفاق التغيير في سوريا - على الأقل حتى الآن - سيفيدنا فيما يتعلّق بآفاق التغيير في المنطقة العربية، والكيفية الممكنة لتخطى العثرات على هذا الطريق.