تعاظم الحديث في الأشهر الماضية عن «إسلاميين متشددين» و«سلفيين» و«أصوليين»، دخلوا سوريا وبدؤوا يعيثون فساداً فيها إلى درجة قتل شباب والإساءة إلى آخرين. وكان هذا، بالنسبة لمن يسوِّقونه سياسياً في سوريا مناسبة لرفع الصوت بغزو إسلامي سلفي لسوريا قادم من «القاعدة» أو «مُكتشف» في سوريا نفسها. وبطبيعة الحال، كانت الولايات المتحدة وبعض بلدان الغرب قد اكتشفت في ذلك خطراً هائلاً كانت الثورة السورية -كما قال إعلاميو النظام السوري- هي التي حفزت على نشأته. وتأتي الخطوة الأخيرة بالإعلان أن «الثورة المذكورة» إن هي إلا عصابة من شذاذ الآفاق، اجتمعوا على أن يحوِّلوا سوريا إلى ترسانة ضد الشعب السوري والغرب العلماني كليهما. وفي سياق ما رافق ذلك من صراعات زائفة وملفقة، راحت سوريا تنتفض على المجموعات الإسلامية المستجلبة من الخارج، في سبيل اللعب على الإشكالية الحقيقية التي أنتجت الثورة، وذلك بإخفائها عبر تزوير هويتها الحقيقية: إنها ما كنا نتحدث عنه منذ ثلاثة عقود، أي إشكالية الفساد والإفساد، إشكالية الاستئثار بالسلطة والثروة وبالإعلام والمرجعية المجتمعية والسياسية، كما أنها إشكالية الفقر والإفقار والإذلال من قبل الدولة الأمنية، التي على الجميع أن يطأطئوا رؤوسهم لها، إذ هي التي تعمل على إفساد من لم يفسد بعد، بحيث يصبح الجميع فاسداً ومُفسداً تحت الطلب! لم تقم الثورة السورية بسبب وجود إسلام سياسي متشدد مزعوم، أو بسبب انتشار الطائفية البغيضة، إذ أن الشعب السوري لم يخرج من وحدته الوطنية، رغم ما يحاوله البعض من إيهام للناس بوجود «سوريا طائفية جديدة»، بعد انهزام سوريا الوطنية الموحّدة، في العموم والإجمال. فمنذ طفولة هذا الجيل السوري الموجود الآن، كنا نتشرب بحليب الوطنية والتعددية المذهبية والدينية والطائفية، ونعتبر ذلك كله سوريا، ممثلة في العلوي والسني، الدرزي والإسماعيلي، اللاذقي والحمصي، العربي والكردي... وكل الآخرين دون استثناء. وحين كان تلامذة المدارس يعلمون من خلال آبائهم ومعلميهم وجيرانهم بوجود طوائف سورية أخرى غير التي سمعوا بها أو رأوها وعايشوها، كانوا يشعرون بمزيد من العزة الوطنية والقدرة على مواجهة العدو التاريخي المتمثل بإسرائيل. وفي هذا، كان أولئك حين يسمعون عن تناقضات وصراعات بين مجموعات من السوريين، يدركون عبر ما تملّكوه من وعي وطني جامع ومحفّز، أن سوريا هي لذلك الجميع الذي يلتقي على خط ناظم حاسم، كما يدركون أين تقع الخطوط الحمراء التي تمثل جامعاً للسوريين في مواجهة الأعداء الخارجيين الطامعين في سوريا والمعيقين للتقدم فيها. ومن الطريف والدال بقوة هائلة، وبما تقوم عليه تلك الصيغة الموزائيكية، بعناصرها البنيوية، أن القول التالي بمثابة الناظم لحياة السوريين جميعاً: «كلو مين على دينو يعينو». لقد سبق الشعب السوري كل المنظرِّين من أبنائه إلى امتلاك طاقة ثقافية وأيديولوجية تقرب بين أجزاء صيغته الموزائيكية، بكل الاعتبارات والمقاييس، ومنها تلك التي تنجز وظيفتين اثنتين، تقوم الأولى على تحقيق مزيد من القوة الفعلية وفي شخص كل السوريين، ذلك لأن البناء كلما كانت أحجاره الرافعة كثيرة وتشمل مساحته كلها، كان هذا الأخير أقرب إلى القوة الناظمة المشاركة. أما الوظيفة الثانية فتتحدد في أن الهُوية السورية هي كل تلك الهويات المتمثلة في الصيغة الموازاييكية المذكورة، وذلك في حقل يحتمل كذلك الهوية العربية، التي تغتني بذلك كله، وبما سبقها تاريخياً من مدنيات تاريخية عريقة.