خلال أسبوع واحد بين أواخر يوليو وأوائل أغسطس 2013، جرت انتخابات رئاسية وبرلمانية في «مالي» و«زيمبابوي»، لتكشف كثيراً من حقائق الموقف في البلدين من جهة، وموقف الدول والإعلام الغربي التابع لها من جهة أخرى، خاصة وأن الموقف من الثورة الجماهيرية المصرية خلال الفترة نفسها يسهم كثيراً في هذا الانكشاف المؤسف. ففي مالي، تُحيي هذه المؤسسات "التجربة الديمقراطية "، التي تتم هناك بإجراء الانتخابات، تحت إشراف عسكري محلي ودولي، بما تسميه هذه الأجهزة بالانتقال الهادئ من الحكم شبه العسكري إلى حكم ديمقراطي، وأقول إنهم سموه انتقالاً هادئاً أو«سلمياً»، لأن الجيوش المحلية والأجنبية تسيطر على نصف مساحة البلاد الشمالي، والاسم المرشح الغالب للرئاسة هو "إبراهيم كيتا" من مؤيدي هذه الطبخة الفرنسية الدولية! وفى أجواء هذه العملية المرتبكة لما يعتبر "ديمقراطية تحت مظلة جيوش كاسحة" يجرى الحديث عن نمط الديمقراطية الهادئة، الذي يرتضيه السادة في دوائر رأس المال الكبير المستثمر الكاسح بدوره للصحراء الكبرى، أملاً في استقرارها لصالحهم في الفترة القادمة. لم يتحدث أحد حتى الآن عن أن هذه الظاهرة الديمقراطية العسكرية، إنما تأتى تحت شعارات تصفية الإسلاميين « في جاو» و«كيدال» و«تمبوكتو» شمال البلاد ...ونحن نعرف أن الحركة الإسلامية المتطرفة هذه من " أنصار الدين" وغيرهم نشأت تقريباً في حضن حكومات "مالي" الشرعية، والصمت الفرنسي، في مواجهة متمردي حركة "تحرير أزَاواد" الشمالية وهي "وطنية علمانية" في تقدير الكثيرين، بما كان يستوجب بعض التأييد في مواجهة "الإسلاميين المتطرفين". هذا لو صدقت نوايا "الديمقراطيين الغربيين" تجاه مشاكل شعب "مالي"، لكن ذلك لم يحدث، لأن كليهما أصبح ضاراً بالخطط الفرنسية والأميركية في الصحراء الكبرى. وقد أصبحت الخطة هي سيطرة القوات الأجنبية على الجميع في ظل نمط "ديمقراطي" مريح يقبل بهذا النفوذ الأجنبي المتكامل في منطقة الصحراء الكبرى. إلى حد أن يقوم رئيس جمهورية فرنسا "الديمقراطي الاشتراكي" بزيارة قوات التدخل الفرنسية في "مالي". وفي "تمبوكتو" تحديداً (فبراير 2013)، وإلى حد أن تقدم له منظمة "اليونسكو" الدولية جائزة لتدخله لحماية "الآثار الإسلامية "بحضور ثمانية رؤساء أفارقة في باريس في يناير 2013 ! إننا لا نريد هنا إلا أن نؤكد الفهم الموضوعي لآثار المصالح "الكبرى" حتى الآن في دول العالم الثالث، وأن القيم عندما تتعلق بالمصالح يجرى تكييفها، حتى "التنظيمات الدينية الأممية "نفسها، تفعل ذلك! وإلا لماذا ورطت نفسها في تناقضات صارخة في سياساتها المحلية، واصطدامها السهل بالوطنية بهذه الصورة المؤسفة، سواء كانت هذه الأوضاع المحلية بائسة مثلما الحال في الصومال أو أفغانستان أو متطورة مثل الحال في مصر! لكن المؤسف أكثر أن كثيراً من المثقفين في الغرب، أو في أفريقيا نفسها، يبتلعون هذا الطعم الغربي عن الديمقراطية رغم كل التطورات وأنماط التغيير الراديكالي للأفكار في العالم الثالث ...وحتى عندما يسلم المثقفون بأشكال أخرى جماهيرية غير أوروبية، فإنهم يتوقفون فقط عند "ثورات الأورانج" الشرق أوروبية! المشكلة الكبرى في بعض هذه الحالات هو جذورها الممتدة، بما لا يجعل للآلام الشعبية نهايات قريبة مهما اختلفنا على المعالجات الحالية، فجمهورية "مالي"، لن تنهي صراعاتها العرقية والدينية، بمجرد التدخلات العسكرية الحالية، لأننا أمام مطلب الحكم الذاتي على الأقل للطوارق، أو البربر، والعرب مع تعدد المسميات. وليس التعدد فقط في الواقع المحلي، ولكن على أطراف "مالي" مثل الجزائر، والنيجر، وليبيا، بل وتعدد المتدخلين مع فرنسا مثل "تشاد" و"بوركينا فاسو"، فضلا عن حماية منظمة إقليمية محترمة كالاتحاد الأفريقي لكل هذه التدخلات بسبب مصالح الدول الكبرى الأعضاء فيه مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا. والضحية هو شعب "مالي"! أما في "زيمبابوي "، فإن تفاعل التناقضات وازدواج المعايير يمضى بشكل مختلف، لأن الثوابت مختلفة إلى حد كبير عنها في "مالي". فنحن هنا أمام التعامل مع حكم حزب "زانو" بقيادة الرئيس الشرعي "موجابي". والحزب ورئيسه ، مازالا يمثلان ذاكرة حركة التحرر الوطني في زيمبابوي منذ استقلالها عن نفوذ المستوطنين الأوروبيين1981. وكانت إنجلترا قد ضمنت في عملية "لانكستر" استقلال زيمبابوي مع استمرار نفوذ المستوطنين ومصالحهم في أكثر من ثلثي أراضي "زيمبابوي" الزراعية! لكن بعد مضى عشر سنوات على ذلك أوائل التسعينيات، ومع ثورة التحول في جنوب أفريقيا بقيادة مانديلا، بدأ موجابي وحزبه يعيدون تنظيم استرجاع الأرض للفلاحين. ومن يذكر مشاكل "الإصلاح الزراعي" في الجزائر وحكومات بومدين معها، يمكن أن يتصور مشاكل زيمبابوي. وزادت هنا المشكلة باحتمال تأثيرها في جنوب أفريقيا نفسها، خاصة وأن اتفاق "التحول الديمقراطي" فيها لم يمس مشكلة نفوذ البيض على الأراضي أيضاً، وبدت "المصالحة" في جنوب أفريقيا والضجة العالمية حولها مهدئة للمشاعر مقابل توترها في زيمبابوي، حيث يريد "موجابي" تأكيد حكمه بعد عشر سنوات، بل وضمن تأكيد زعامته في الجنوب أمام مانديلا وغيره...وكان لابد لبريطانيا خاصة لجم هذا الطموح لأنها راعية المصالح الغربية في كل المنطقة، فكانت حملة المقاطعة المذلة لـ«موجابي» وشعبه على مدى عقدين حتى الآن، اقتصادياً ودعائياً. لكن يقال إن كل الشعوب التي تعرضت لحملات المقاطعة بهذا الشكل، حققت أفضل الإنجازات، من جنوب أفريقيا نفسها في ظل الأبارتهيد، حتى الصين، وإسرائيل، وإيران، ويضم لها الآن "زيمبابوي"! ويتمترس كل من هذه النظم بحجة أو بأخرى لاستمرار موقفه حتى تحل الأزمة بطريقة مرضية له!...وفى "زيمبابوي"، كان خوف جنوب أفريقيا من تأثير استيلاء "موجابي" على الأراضي كمثال أمام شعب الجنوب، أمراً مرعباً لحكومة الرئيس "مبيكي"، كما بات الأمر يرعب الرئيس الشعبوي "زوما" نفسه! وبينما "موجابي" يلمح إلى أن حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، تحت مظلة "مانديلا" يحكم منذ عشرين عاماً بدوره، فإن التصعيد ضده هو وحده يصبح غير منطقي، ولذا لا يتحرج "موجابي" من ترشيح نفسه للرئاسة للمرة السابعة، كما أن مثال الرئيس "زوما" وزيجاته السبعة، يمنح "موجابي" تعذيراً لزيجاته الشابة، رغم اقترابه من التسعين عاماً. والفرق أن زيمبابوي تقترب دائماً بقدر من الاستقرار والعدالة الاجتماعية بالنسبة للأراضي، والتعليم والصحة، بينما جنوب أفريقيا تتعرض لتدهور الموقف فيها بشكل جذري بالنسبة لنفس مشكلة الأراضي والثروة المنجمية والحركة العمالية والفلاحية على السواء. إن العنف الذي يواجه به النظام في جنوب أفريقيا الحركة العمالية، وأي حركة عمالية أو شبابية للتمرد، وإطلاق النار بكثافة على عمال "ماريكانا" وغيرهم منذ أواخر عام 2012 يشير إلى احتمالات توتر عال في هذه المنطقة تجعل أي مقارنة مع "زيمبابوي" غير عادلة! وتكشف بقوة تناقض المعايير المزدوجة إزاء التحية التي تلقاها جنوب أفريقيا دائماً. لعل الأجهزة الغربية قد أحست مؤخراً بحدة هذا التناقض، ذلك أنه في "زيمبابوي" تقوم الحركة الديمقراطية من أجل التغيير، باحتجاجاتها منذ عام 2008، وشاركت في حكومة ائتلافية منذ عام 2009 وأجلت الانتخابات البرلمانية لفترة حتى زاحمت الحكم في أكثر من ثلث المقاعد، وها هي تدخل الانتخابات مرة أخرى بقوة وبحضور أكثر من ألف مراقب أفريقي ووطني (لأن موجابي لا يقبل الرقابة الدولية). الموقف هنا يكاد- من الناحية الليبرالية على الأقل أن يمهد لمبادرات قبول الوضع في "زيمبابوي"، لذلك بدأت الأجهزة الغربية تتدارك موقفها، وتخفف من تناقضاتها إزاء الموقف في هذا البلد، وتقبل بأحكام مراقب أفريقي كبير مثل الرئيس النيجيري السابق "أوباسانجو" عن "حرية وسلامة" العملية الانتخابية! المشكلة الآن أن العجوز "موجابي" لا يريد في هذه السن أن ينسحب أو يقدم وجهاً جديداً لصالح بلاده. فالحزب صمم على الفوز بأكثر من ثلثي المقاعد ليمكنه تعديل الدستور لصالحه، والرئيس قرر أن يعين نائباً للرئيس بين متصارعين جبارين بدورهما هما وزير الدفاع أو وزير المالية... لكنها في النهاية صورة استقرار على نمط أفريقي مألوف. ويتحدث ممثلو حركات شعبية في "زيمبابوي" و"جنوب أفريقيا" عن "ربيع أفريقي"يهدد المنطقة الجنوبية كلها بعدم الاستقرار! ولا نعرف كيف ستمضي معايير الديمقراطية والليبرالية المضطربة هذه في التعامل مع مركز الثروة التعدينية العالمية في الجنوب الأفريقي بعد تجربة الثورات القاسية في الشمال الأفريقي مؤخراً!