بقي المغرب في منأى عن الاحتجاجات العاتية التي عرفتها دول كتونس ومصر، أولاً لأن الأرضية الدستورية والانفتاح السياسي في إطار الميثاق التعاقدي بدأ في المغرب منذ مدة، وثانياً لأن ملك المغرب كان استباقياً، ففي سنة 2011 صادق المغاربة على دستور سميته مع فقيه القانون الدستوري الأوروبي أندري كابانيس بدستور الجيل الرابع، لأنه اجتمع فيه ما تفرق في غيره وجسد الإجماع الوطني والذكاء المؤسساتي والاستشراف المستقبلي وهي أمور لا محيد عنها، قبل أن تأتي انتخابات تشريعية ويعين أمين عام الحزب الإسلامي الفائز رئيساً للحكومة، وليتحالف حزبه مع أحزاب بعضها ليست من طينته الفكرية والأيديولوجية كحزب التقدم والاشتراكية، وهو ما تحدثنا عنه في وقته، فهذا النوع من التحالف الحزبي هو الذي يسرع من النضج والتدريب على السياسة لأحزاب ذات لون إسلامي لم تذق بعد تجربة ومرارة التسيير الحكومي، وأملنا أن تتحول هذه الأحزاب إلى أحزاب محافظة مع الوقت، لأن الدين يجب أن يبقى للجميع. ثم وقعت في الأسابيع الأخيرة استقالة وزراء حزب الاستقلال من الحكومة، وهو حزب يميني محافظ، ليجد رئيس الحكومة نفسه ملزماً بالدخول في مفاوضات مع أحزاب أخرى موجودة في المعارضة تبادلت مع حزبه في زمن قريب أشد أنواع السب والقذف والاتهامات، وهذا في نظرنا مسألة قد تسرع من التدريب على السياسة وعلى النضج السياسي وعلى تمثل الدبلوماسية السياسية في مجال سياسي صعب لا مجال فيه للارتجالية والشعبوية. ثم إن هناك خاصية مغربية في إطار الاستباق والمظلة الملكيين في المجال السياسي العام المغربي، وهي إمارة المؤمنين التي هي مؤسسة توحد الخاص والعام، وهي إحدى الرموز الكبرى لوحدة الوطن. ولفهم هذه المسألة بالإمكان أن نقيس دور إدارة المؤمنين بدور الوحدة المذهبية في تاريخ المغرب، فلهما نفس التأثير في وحدة الدولة المغربية والحفاظ عليها من شر التشرذم والفتن، إذ كما هو معروف أتيح للمذهب المالكي أن يستقر منذ اثني عشر قرناً في المغرب مرتبطاً بالعقيدة الأشعرية وسلوك التصوف السني معززاً بأسباب أخرى كان من بينها -وربما من أهمها- موافقة طبيعة المذهب القائمة على النص والنقل والأثر والرواية، لمزاج المغاربة النافر من الغموض والإبهام والتعقيد والتأويل. ومع ذلك، فقد كان يظهر من حين لآخر بعض الذين يدعون المهدوية والفاطمية، أمثال محمد بن عبد الله الماسي الذي ظهر في سوس أيام عبد المؤمن الذي قاتله، وعبد الرحيم القحطاني الذي خرج زمن الناصر بالأندلس، وكان يروج لنفسه انطلاقاً من حديث «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً»، إلا أنه لم يلبث أن حورب وقتل وحمل رأسه إلى مراكش. كما ظهر التويزري الفاطمي على عهد يوسف بن يعقوب المريني في المائة الثامنة، مدعياً أنه الفاطمي المنتظر، فكان مآله القتل في سوس. وفي القرن نفسه خرج العباس الفاطمي في أغمارة، وتسنى له أن يدخل فاساً قبل أن يقتل. وقد استمرت مثل هذه الدعاوى تبرز حتى عهد قريب، على نحو دعوى البهائيين الذين ظهروا في بعض مدن الشمال المغربي أوائل خمسينيات القرن الماضي، ووقعت محاكمتهم والقضاء عليهم. وهم من الإسماعيلية المنتمين إلى الاثنى عشرية، وينتسبون إلى بهاء الله أو باب الله، مع العلم أن منشئ هذا المذهب في المشرق هو ميرزا الشيرازي التاسع عشر، وآراؤه منحرفة عن الإسماعيلية، وكان يقول بفكرة الحلول السبئية. ومثله ميرزا علي محمد صاحب كتاب «البيان»، وكان لا يؤمن بالرسالة المحمدية، ويزعم تمثيل جميع الأنبياء، وقد خلفه ابنه عباس أفندي المعروف بعبد البهاء. وقد أبانت هذه الأحداث وغيرها، أنه لا مكان في المغرب للمدعين والمشوشين على المذهب المالكي. وكان قد ورد عن بعض آل البيت الوافدين من كربلاء زمن يوسف بن يعقوب المريني، أنه قال لأصحابه: «ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط، وليس هذا الوقت وقتنا». والشيء نفسه بالنسبة إلى إمارة المؤمنين، فهي تقسم ظهر كل من يريد أن يستغل الدين لحسابات سياسية أو مغرضة أو يحدث الفرق والنحل والطوائف. قارن معي: هل غيّر «حزب العدالة والتنمية» في المغرب شيئاً من أمور الدين منذ أن وصل إلى الحكومة؟ لا شيء، ولا يستطيع أن يقوم بذلك لأن الثوابت داخل المجال الديني لا يمكن أن تتزعزع، حتى إن كل مؤاخذات حزب الاستقلال قبل أن يخرج إلى المعارضة كانت جلها تصب في ميادين تسيير الشأن العام. فإمارة المؤمنين رسخت خطوطها انطلاقاً من العلاقة الوثيقة بين الملكية والإسلام في تاريخ المغرب الأقصى، فنتج عنها هذا الحقل المرتكز على مفهوم البيعة، والتي هي عقد سياسي وروحي بين الحاكم والمحكوم، إلى جانب التواجد الدستوري المهيكل والمنظم للمجال السياسي العام وبالأخص في مجال التعدد السياسي. هذا الأمن الروحي للمغاربة الذي رسخته إمارة المؤمنين هو الذي يفسر غياب الشنآن السياسي في أعلى وأخطر تجلياته داخل المجال السياسي العام، أي بين الحزب الإسلامي والأحزاب السياسية الأخرى مقارنة مع دول كتونس ومصر، وهو الذي أعطى للتجربة السياسية المغربية خصوصيتها المتميزة، فالمعول عليه اليوم مع حكومة بنكيران، بعد ترميم أغلبيتها، كما جاء في خطاب عيد العرش الأسبوع الماضي، هو الانكباب على الإصلاحات التنموية وتسيير الشأن العام بأفضل الوسائل بعيداً عن الشعارات التي تبين لمتلفظيها سواء داخل الحكومة أو في المعارضة أنها زائفة ولا تغني من جوع وأن أي إنسان إنما ينتظر عملاً وراتباً وتطبيباً وتعليماً وتنمية.