دأب الأميركيون على التظاهر بعدم الاهتمام بالسياسة، والشعور بالاستخفاف من تفاهة الفروق القائمة بين أكبر حزبين سياسيين في بلادهم (الديمقراطي والجمهوري). إلا أن في وسعنا أن نعتبر هذه المؤشرات من مظاهر الترف التي تجعلنا نبرز أمام العالم باعتبارنا الدولة الأغنى والأكثر استقراراً من دون منازع. ولكن السياسة في معظم دول العالم الأخرى مسألة حياة أو موت. وهذه المقولة تنطبق بشكل خاص على كوريا الجنوبية التي احتفلت الأسبوع الماضي بالذكرى الستين للهدنة التي أنهت الحرب الكورية المريرة. ويبدو من العسير تقدير حجم الدمار الذي أصاب شبه الجزيرة الكورية (الكوريتين) عقب انتهاء الحرب بينهما عام 1953. وسبق للجنرال دوجلاس ماك آرثر (الذي قاد الجيوش الأميركية في تلك الحرب) أن عبّر عن شعوره بالرغبة في التقيؤ عندما ألقى نظرة فاحصة على كوريا المُحطّمة. وقد أدت 3 سنوات من الحرب إلى مقتل 3 ملايين شخص معظمهم من المدنيين. ولحق الدمار الكامل بثلث البيوت وبأربعة أعشار المصانع. وباتت عاصمتا الشمال والجنوب اللدودتان بيونج يانج وسيئول ومعهما بقية المدن الكورية خرائب، وأصبحت الأغذية شحيحة وارتفعت أعداد اليتامى. وبدأت الكوريتان الشمالية والجنوبية في استقبال المساعدات العاجلة من الدول المانحة لإعادة بناء ما دمرته الحرب. وكانت الأولى تتلقى مساعداتها من الاتحاد السوفييتي، والثانية من الولايات المتحدة وحلفائها. وحققت كوريا الشمالية التي تبنّت التوجّه الستاليني، نجاحاً كبيراً في بداية الأمر. وواصل اقتصادها نموه السريع الذي فاق نمو جارتها حتى أعوام السبعينيات مدعوماً بتوافر قاعدة صناعية يمكن الانطلاق منها واستغلالها. وأصبحت كوريا الجنوبية في أعوام الخمسينيات والستينيات واحدة من أكثر دول العالم فقراً، وانخفض الناتج الفردي الإجمالي إلى ما دون 100 دولار سنوياً حتى باتت تُقارن بأفقر بلدان جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى. وتتذكر «كونجدان أوه» الأستاذة في «معهد بروكينجز»، والتي عايشت الظروف المأساوية في كوريا الجنوبية الخمسينيات وخاصة منها ما يتعلق بشحّ الموارد الغذائية، وقالت في وصفها لتلك الأوضاع من خلال مقال نشرته عام 2010: «في فصل الربيع، وبعد استهلاك المحاصيل الزراعية التي تكون قد حُصدت في الخريف السابق، يبدأ الشعب الفقير بتسلق الهضاب بحثاً عن بعض الأعشاب والنباتات التي تصلح للأكل، تماماً مثلما يفعل الكوريون الشماليون اليوم». وأضافت: «وكانت غرف الصفوف في المدارس تفتقد للطاولات والكراسي ولا تحظى بالتدفئة في الشتاء. وكان معظم الأطفال يعتمدون على المواد الغذائية القليلة التي تأتيهم من الدول المانحة مثل الحليب الجاف». وأما اليوم فإن المسافر إلى كوريا الجنوبية يستحيل أن يصدّق أن هذه الأرض هي ذاتها التي سبق لها أن مرّت بتلك الظروف الكأداء. فبعد 60 عاماً فحسب، ووفقاً لما أشارت إليه إحصائيات نشرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، أصبحت كوريا الجنوبية تحتل المرتبة الـ12 في قائمة الاقتصادات الأقوى في العالم بناتج محلي إجمالي سنوي يبلغ تريليون دولار وبناتج فردي إجمالي سنوي يزيد عن 32 ألف دولار. وهي تصنع منتجات عالية الرواج في الأسواق العالمية مثل سيارات هيونداي وأجهزة «إل جي» الكهربائية وهواتف سامسونج النقالة. وتتفوق من حيث حجم صادراتها على كل من بريطانيا والمملكة العربية السعودية وسويسرا. وتنتج أحواضها الجافة من البواخر أكثر مما تنتج نظيراتها في الولايات المتحدة بثماني مرات. ويكفي أنها اقتحمت حتى عصر موسيقى البوب عن طريق المغني «بساي» وفرقته «جانجام ستايل». وأصبحت العاصمة سيئول التي يزيد عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة، واحدة من أضخم مدن العالم. وهي تضم عدداً لا يكاد يحصى من الأبراج الشامخة المخصصة للبيوت السكنية والمطاعم والمعارض ومراكز التسوق والمقاهي. وتتألق المناطق التجارية الراقية بأضواء النيون الملونة التي تستثير ومضاتها المتقطعة مشاعر البهجة وتعبّر عن أبهى مظاهر الترف، وهي تلفت النظر إلى المطاعم ومحال بيع بضائع الشركات العالمية الشهيرة. إلا أن مظاهر الترف لا تقف عند حدود المدينة ذاتها. ومن ذلك أن «بوسان» مدينة الميناء الرئيس الواقع جنوب البلاد، تمثل الآن معلماً حضارياً مزدهراً بأبراجها الزجاجية العالية ومطاعمها الفخمة وشواطئها الخلابة. وفي المقابل فإن كوريا الشمالية، تختلف الأمور كثيراً. وخلال الأعوام الستين الماضية تحولت من كونها الشطر الأكثر قدرة على النمو في شبه الجزيرة الكورية إلى مكان يموت فيه الملايين من الجوع، ويقبع فيها مئات الألوف وراء قضبان السجون على الطريقة ذاتها التي كانت سائدة أيام العهد السوفييتي. وأصبح الناتج الفردي الإجمالي فيها هو الأخفض في العالم أجمع، وارتفعت فيها معدلات الفقر إلى مستويات قياسية. فما الذي صنع هذا الفرق الهائل بين الشمال والجنوب؟.. إنها السياسة ولا شيء غير السياسة. ودليل ذلك أن الإرث الثقافي للدولتين متطابق تماماً. وجاء الفرق من أن كوريا الشمالية كانت ضحيّة «أسرة كيم».. من الجدّ الأكبر كيم إل سونج، إلى ابنه كيم جونج إيل، حتى جاء دور حفيده كيم جونج أون الذي يحكم الشمال الآن. ويمثل هؤلاء آخر من تبقى من معتنقي المذهب الستاليني القائل بمبدأ جماعية المشاركة في العمل والإنتاج، والشمولية القائمة على مبدأ حكم الحزب الواحد. وأما كوريا الجنوبية فهي على العكس من ذلك تماماً، فلقد بادرت في عقدي الستينيات والسبعينيات إلى تحرير اقتصادها وفق تعاليم قائدها «بارك تشونج- هي» والد رئيستها الحالية «بارك جون- هي». وعقب اغتيال «بارك» الأب عام 1979، دخلت كوريا الجنوبية فترة التحوّل الكبرى عندما اختارت سياسة الديمقراطية التعددية التي أثمرت عن ازدهار اقتصادي غير مسبوق. وهكذا أصبحت كوريا الجنوبية مثالاً لا نظير له حول الطريقة التي يمكن بها لآلية صنع القرارات السياسية أن تؤثر على حياة البشر ومستقبلهم.