عشنا في الكويت أسبوعاً أخذنا إلى انتخابات لمجلس أمة آخر، وذكرى مؤلمة هي ذكرى احتلال العراق لدولة الكويت. تبدو الكويت اليوم في الذكرى الثالثة والعشرين لجريمة العصر التي تمثلت بغزوها واحتلالها من قبل قوات صدام حسين في الثاني من أغسطس 1990، تبدو كمن يواجه سيلا من التحديات الأمنية والسياسية والاجتماعية معاً. وهكذا تعود تلك الذكرى البائسة التي تبقى جرحاً نازفاً في الذاكرة الجماعية الكويتية، لفداحتها وكونها غير مسبوقة في الغدر والخيانة، إنها احتلال عسكري سافر لدولة عربية من جانب شقيقتها العربية الأخرى والجارة المجاورة. وسط ذلك المناخ جرت انتخابات مجلس الأمة، في أجواء رمضانية وللمرة الأولى في تاريخ الكويت، وفي ظل استمرار المعارضة وإن خفتت حدة زخمها وتأثيرها بمقاطعة الانتخابات كما كان الحال في انتخابات ديسمبر الماضي. وكما علّقت حينها في مقالة في هذه الصفحات، فإن «نتائج انتخابات الكويت احتجاج» من القوى السياسية الكبيرة والفاعلة في النظام السياسي من تنظيمات ومجاميع وقبائل كبيرة ومؤثرة قاطعت انتخابات مجلس الأمة بسبب تعديل قانون الانتخاب وتقليص خيار الناخب الكويتي من أربعة مرشحين في دائرته الانتخابية إلى مرشح واحد. وكان سمو أمير دولة الكويت قد استخدم صلاحياته الدستورية في إصدار مرسوم ضروري لحماية الوحدة الوطنية، عدّل من خلاله قانون الانتخابات بخفض خيارات الناخب بالتصويت لمرشح واحد في دائرته بدلا من أربعة مرشحين، كما كان الحال منذ عام 2008. وفيما ترفض المعارضة تعديل قانون الانتخابات بمرسوم ضرورة، معتبرة أن الجهة التي يحق لها تعديل قانون الانتخاب هي مجلس الأمة نفسه، فإن المحكمة الدستورية أبطلت مجدداً مجلس الأمة المنتخب في ديسمبر 2012 وحصّنت مرسوم الصوت الواحد، لذلك كان واجباً دستورياً إجراء انتخابات جديدة لمجلس الأمة عقب إبطال مجلس الأمة السابق. وللدلالة على انسداد الأفق وعلى ما يسمى في الكويت بالتأزيم الدائم في العلاقة بين السلطتين التنفيذية (الحكومة) التشريعية (مجلس الأمة)، فقد يكفي أن نطلع على الإحصائية التالية: منذ عام 2006، تعاقب على الكويت ثلاثة أمراء وثلاثة رؤساء وزراء، وأنتخب الكويتيون ستة برلمانات في سبعة أعوام، جميع تلك المجالس تم حلها أو إبطالها، وتم تشكيل اثنتي عشرة حكومة، وأجريت الانتخابات لمجالس الأمة حسب قانوني انتخاب... وهذا يؤكد عمق المأزق الذي تعيشه الكويت كنظام سياسي وقوى سياسية، ومجتمع انقسم للمرة الأولى بين مؤيد ومعارض لإجراءات النظام والحكومة، ومشارك في الانتخابات ومقاطع لها، ومعتصم ومحتج مشارك في مظاهرات وحشود «كرامة وطن» في أكثر من جولة ونسخة. على هذه الخلفية، وبعد أن أبطلت المحكمة الدستورية مجلس الأمة الأخير الذي انتخب في ديسمبر وحصّنت ما يعرف في الكويت بمرسوم الصوت الواحد، ما أدى إلى تكسر وتفتت جدار المقاطعة وسحب البساط من تحت المعارضة، حيث شارك بعض النواب السابقين الذين قاطعوا الانتخابات السابقة، والأهم من ذلك أن القبائل الكبيرة التي قاطعت عادت جزئياً عن مقاطعتها، ما رفع نسبة المشاركة من أقل من 40 في المئة (أقل نسبة مشاركة في انتخابات مجلس الأمة في تاريخ الكويت) إلى أكثر قليلا من 50 في المئة في الانتخابات الأخيرة، حسب وزارة الإعلام. توجه في 27 يوليو الماضي حوالي نصف الناخبين الكويتيين الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات، وعددهم يتجاوز 400 ألف شخص، أي ثلث الشعب الكويتي، حيث يستثني قانون الانتخاب رجال الأمن والجيش والدفاع ومن هم أقل من 21 عاماً من حق الاقتراع. ذهب الناخبون الكويتيون لأول مرة في شهر رمضان القائظ لانتخاب البرلمان الرابع عشر، وللمرة الثالثة بعد إبطال المحكمة الدستورية في عامين متتاليين البرلمانين السابقين بسبب أخطاء إجرائية باتت مكررة ومحبطة للكويتيين وللمعجبين بالتجربة الكويتية والمتابعين لها. هناك حالة إحباط وإنهاك واضحة لدى الناخب الكويتي من كثرة ما تردد على صناديق الاقتراع خلال الأعوام الماضية. فقد انتخب الكويتيون ثلاثة مجالس أمة في عام ونصف العام وبرلمانين في ثمانية أشهر. ويبدو أننا في الكويت في كل مرة نحطم رقمنا القياسي السابق، ما يدلل على انسداد الأفق وعلى حدة الاحتقان وحالة الصراع الدائم والمحبط في النظام السياسي الكويتي والذي بات بحاجة لوقفة تقويمية جادة في الذكرى الخمسين لانطلاق التجربة البرلمانية الكويتية التي بدأت عام 1963 بانتخاب أول مجلس أمة في المنطقة بعد اعتماد المجلس التأسيسي المنتخب قبل ذلك ببضعة أشهر، في نوفمبر 1962، أول دستور مكتوب في المنطقة. لكن بعد خمسين عاماً، تبدو التجربة البرلمانية الكويتية متعثرة، بل لم تعد ذلك النموذج الذي يثير إعجاب النخب المثقفة في المنطقة وخارجها. لكن الملفت للانتباه في هذا المشهد، هو إصرار الناخب الكويتي على التغيير وتعلّقه بالأمل في أن تتغير الأوضاع إلى الأفضل وفي أن تكون هناك بارقة أمل في التغيير، سواء في العلاقة المضطربة بين الحكومة ومجلس الأمة، أو في العلاقات الخارجية وخاصة مع الجار العراقي والذي يبقى جاراً وشقيقاً بالرغم من الذكرى الثالثة والعشرين على كارثة الغزو والاحتلال وما جرى خلال تلك الأعوام الصعبة، من سقوط للنظام العراقي وتغير في القيادة العراقية وتطبيع للعلاقات بين البلدين، وبالرغم من بقاء بعض القضايا والملفات المؤرقة عالقة وخاصة وضع المفقودين والشهداء والأرشيف الوطني والتعويضات المقررة من جانب الأمم المتحدة للكويت. أكتب هذا المقال في الثاني من أغسطس، ولا زلت أدرك بأن هناك الكثير من الهواجس والمخاوف الحقيقية عند الكويتيين من نوايا العراق، والذي وإن كان قد تغيّر بسقوط نظام صدام حسين و«البعث»، إلا أن النوايا والأطماع العراقية لا تزال موجودة بالرغم من التطبيع والزيارات الرسمية بين الكويت والعراق. لكن مع ذلك كله، تبقى ثمة بارقة أمل بأن تنجح الكويت في التعامل مع التحديين، السياسي الداخلي والأمني الخارجي، بما يضمن وقف إنتاج أزماتها السياسية وسط تحذيرات سمو الأمير من خطورة الأوضاع الخارجية والإقليمية. وكذلك في إيجاد المعادلة المطلوبة في التعامل مع التحديات والتهديدات الخارجية والإقليمية وخاصة مع الجار العراقي. لكن في المجمل، تبقى الأولوية في الكويت اليوم هي لتوحيد الصفوف الداخلية والدعوة لمؤتمر حوار وطني يضم جميع القوى السياسية من معارضة وموالاة وقبائل، لوضع أسس لمبادرة وطنية تشارك بها جميع القوى السياسية وتُراجع مسيرة نصف قرن من المشاركة السياسية والتجربة البرلمانية، بتجرد وموضوعية، للنهوض بالكويت من التعثر والاحتقان السياسي الدائم، ولإحداث النقلة النوعية المطلوبة لتحصين وحماية المكتسبات الكويتية وإنهاء التأزيم السياسي وتحصين الكويت من التهديدات الخارجية أيضاً.