أولوية العمل على النظر أحد متطلبات الواقع العربي المعاصر. المنزل يحترق، فمَن يطفئ النار؟ والوجود مهدد، فمَن يصارع من أجل البقاء؟ والمشروع الصهيوني يتحقق يوماً وراء يوم من احتلال أكثر من نصف فلسطين في 1948 إلى ابتلاع النصف الآخر في 1967، ومن احتلال جنوب لبنان إلى احتلال الجولان في سوريا، ومن الهجرات الروسية إلى تأسيس إسرائيل الكبرى، فمن الذي يحمي الدار ويذب عن الديار؟ وما هو دور الفيلسوف والمفكر والمثقف؟ أيقبع في فلسفته يعلمها صنعة لجيل قادم من الحرفيين؟ أينظر بفكره إلى الحريق والهدم وتجريف الأراضي واغتيال الأطفال والنساء؟ أيبقى في ثقافته، فالثقافة شيء والعالم شيء آخر، وما شأن عالم الأذهان بعالم الأعيان؟ لذلك قال الغزالي من قبل: لو أني أشعر بثعبان تحت الجبة فهل أسأل: ما طوله؟ ما عرضه؟ ما شكله؟ ما لونه؟ سامٌّ أم غير سام؟ أم أني أقذفه أولًا خارج الجبة ثم بعد ذلك أنظر إليه وأصفه؟ هنا يسبق العمل النظر في مواقف الخطر، وتهديد الوجود والبقاء. والآن يشعر الجميع بمدى الامتهان عندما نواجه الاحتلال بالبيان، والاجتياح بمؤتمر القمة، والعدوان بالشجب والإدانة. فأين الفعل في مواجهة الفعل، والألم في مواجهة الألم؟ يسهل الكلام، ويصعب الفعل. ويعلو الصوت إذا ما صمت الفعل. هو نفاق ذاتي، وتعويض نفسي، وإبراء للذمة، وتخفيف من عذاب الضمير. ولذلك أتهمنا في ثقافتنا وتراثنا. وقيل إن العرب ظاهرة صوتية، وإن بضاعتهم بضاعة كلام. في حين أن الشعر العربي خيال وكرامة، عزة ونخوة، سمو ورفعة. وفي تاريخ العرب «وامعتصماه» صراخ امرأة في الشام ينتهك الروم حرمتها إلى الخليفة في بغداد. وفي الشعر العربي، المهلهل ابن أبي ربيعة بعد مقتل أخيه كليب «غداً أمر». وهو طريق ما زال مفتوحاً للقادة العرب إذا ما أراد أحد منهم نصر إخوته في فلسطين. ونظراً لغياب الفعل، الكل يريد أن يضع الكرة في ملعب الآخر، ويعيب عليه سكونه وصمته. يقول السوريون للمصريين والأردنيين: اقطعوا العلاقة مع إسرائيل واسحبوا السفير. ويقول المصريون والأردنيون للسوريين: افتحوا جبهة الجولان فهي ليست أقل من الجنوب اللبناني. ويقول اليمنيون للمصريين: لماذا لا تفتحون جبهة في سيناء للتخفيف عن الفلسطينيين؟ ويقول المصريون لليمنيين: احضروا جيوشكم إلى سيناء، وتعالوا لتحرير فلسطين. ويقول العرب للأوروبيين: لماذا لا تناصرون الحق الفلسطيني ضد العدوان الصهيوني، وتقطعون عنهم المعونات، وتوقفون التجارة، ولا تجعلونها من الدول الأكثر رعاية؟ ويقول الأوروبيون للعرب: ولماذا لا تقومون بواجبكم تجاه إخوانكم في فلسطين؟ ولماذا لا تقاطعون إسرائيل تجارياً وتمنعون قدوم السياح إليكم وتوقفون خطوط الطيران؟ ويطالب العرب الأميركيين بأخذ موقف الحَكَم العادل، والشاهد المنصف، والضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي المحتلة والعودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967. وتقول أميركا للعرب: ولماذا لا توقفون أنتم العنف والعمليات ضد إسرائيل، وتوقفون دعايتكم العدوانية ضد شعب إسرائيل؟ وتطالب روسيا أميركا بالتدخل لصالح العدل في المنطقة. وتطالب أميركا روسيا بالتعقل دفاعاً عن شعب إسرائيل من «الإرهاب» العربي. وفي غياب أي فعل ذاتي من أي طرف، بداية بالطرف العربي، يتم اجتياح الأراضي الفلسطينية وتدمير المدن والقرى، وتسوية المخيمات بالأرض. والكل يستصرخ أخاه بل عدوه. ولم يبق أمام العرب إلا استجداء العدو الأكبر، الخصم والحكم. ونظراً لما نحن فيه من مآسٍ وأحزان، وإحساس بالعجز والامتهان، وشعور بالضعف والهوان، فإن الحاجة إلى الفعل تبدو ملحة في وقت يتساءل فيه الجميع: أين العرب؟ ولما تحرك الشارع العربي تنفس الجميع الصعداء. وشعر كل عاجز بأنه تخلي عن عجزه بفعل الآخرين. وأصبح الشارع العربي هو المخلص من كل ذنوب بعض أنظمة الحكم وأيديولوجيات المنظرين. وبحثاً عن الفعل في ميدان العجز بدأ المنظرون في تحية الشعب الفلسطيني لأنه أخذ قضيته بيده، وأنه يحارب لأول مرة لاسترداد أرضه. فقد حارب العرب بدلاً عنه في 1948 و 1956 و1967. ولحق بثوراته المستمرة قبل النكبة، ثورة عز الدين القسام وما سبقتها من ثورات. فالانتفاضتان الأولى والثانية من صنعه. أعطته الأولى السلطة الوطنية الفلسطينية. وتعطيه الثانية الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. ولأول مرة تختفي الحروب النظامية بين جيشين، ويحارب شعب جيشاً. وتقف مقاومة شعبية أمام أعتى الجيوش وأقواها عدة وعتاداً. ولأول مرة تفوق خسائر العدو خسائره في حروب الجيوش النظامية. وتأتي العمليات الفدائية في المقدمة، التوحد بين الفعل والوجود. فالنضال الفلسطيني قمة الفعل في وسط «التخاذل العربي» قمة العجز. وتـُحاصَر الأنظمة العربية بين المطرقة والسندان، المطرقة الأميركية بالوعد والوعيد، وقطع المعونات، والسندان غضب الشارع العربي وثورته. وتراهن بعض الأنظمة على الولايات المتحدة ضد الشارع العربي. وهو نفس رهان برويز مشرف، حاكم باكستان السابق، الذي آثر أن يخسر الشارع ويكسب ود الولايات المتحدة لضرب أفغانستان، والقفز فوق آسيا، وإقامة القواعد فيها، وتهديد الصين وماليزيا وروسيا، والوقوف أمام الاقتصاد الياباني والكوري، والاستيلاء على السوق الآسيوي لمنتجات هونج كونج وتايوان وسنغافورة، والوقوف على حافة نفط بحر قزوين، وخوفاً من حصار باكستان وقدرتها النووية بين الهند شرقاً وإسرائيل غرباً. قد يكون الرهان على الولايات المتحدة كسباً للنظام على الأمد القصير، ولكنه خسارة له على الأمد الطويل، إذا ما تحولت حركة الشارع إلى ثورة شعبية. والآن، ما دور المثقف؟ يشعر البعض بأن المدخل الأيديولوجي للواقع العربي المعاصر قد تجاوزه الاجتياح الصهيوني لما تبقى من فلسطين. ولم يعد تعدد الأطر النظرية بين قوميين وإسلاميين وليبراليين وماركسيين بذي دلالة. وماذا يغني النظر عن العمل؟ وفيم الخلاف الأيديولوجي بين فرقاء النضال والخطر على الجميع، وأفعال المقاومة تتجاوز الاختيارات الأيديولوجية؟ وبدلًا من الحروب المعلنة وغير المعلنة بين المثقفين، والتخوين والتكفير المتبادلين يقوم المناضل بالتوحيد بين الفكر والواقع. الفعل يوحد النظريات، والنظريات أفعال وهمية. إن التمترس حول البحث النظري، والتخندق في التحليل الإبستمولوجي، والتستر بالغطاء المعرفي إنما هو نقص في الالتزام، والأخذ بالأسهل والأحوط. فالتحليل المعرفي يتم في المكتبات وعلى المكاتب في حين أن النضال الوطني يكون في الطرقات ومع الناس. الإبستمولوجيا تنتشر في دور النشر، وتؤدي إلى الجوائز العلمية. في حين أن الفعل يؤدي إلى المعاناة. بل إن البحث العلمي والتحليل المعرفي نفسه يجف ويموت دون الممارسة الفعلية. فالتجربة الاجتماعية للفيلسوف مثل المختبر والمعمل للعالم. لذلك يسمون فريق البحث العلمي في الجزائر «المخبر» نقلا عن الفرنسيين Laboratoire ، مخبر علم الاجتماع، مخبر الفلسفة. وقد أكد معظم الفلاسفة وليس التجريبيين وحدهم على أهمية الخبرة بصرف النظر عن مستواها ومدى اتساعها، بين الخبرة الحسية أو الخبرة الحياتية، الخبرة الفردية والخبرة الجماعية. ويتبادل اللفظان الخبرة والتجربة، الخبرة البشرية والتجربة العلمية وأحياناً يتمايزان. وكثيراً ما يسأل الأساتذة الطلاب أين الباب الأول في رسائلهم عن حياة الفيلسوف وعصره والظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها؟ فالفيلسوف ابن عصره. وفي نفس الوقت يحلو للبعض منهم التشدق بمصطلح «المثقف العضوي» لجرامشي، معتبرين أنفسهم نموذجه حتى يلحق بثقافة العصر!