من المفهوم تماماً أن تؤدّي الثورات إلى إعاقات بنيوية، وأن يترتب عليها انقطاع في الزمن يستغرق وقتاً، يطول أو يقصر، قبل أن تعاود الأمور انتظامها الطبيعي والسوي. هذه حقيقة تكاد ترقى إلى بديهة تعززها تجارب تاريخية لا تحصى في سائر بقاع الأرض. لكنّ ما نلاحظه في أيامنا هذه، في ما خص ثورات «الربيع العربي»، أن الإعاقات والانقطاعات تلك تستغرق وقتاً طويلاً جداً، بل أطول من الأزمنة التي توقعها كثيرون منا بمن فينا بعض المتشائمين. وقد يقال في حالة سوريا تحديداً إن اختيار النظام الأسدي الشكل العنفي البالغ القسوة شكلاً وحيداً في التعاطي مع مجتمعه، هو ما يفسّر ذلك، خصوصاً حين نضيف مدى الارتباط الذي أقامه النظام منذ 1970 بين البلد و«الأوراق» الإقليمية والدولية. هكذا صار التغيير مُشرعاً، وبالتعريف، على عوامل ومداخلات خارجية يصعب ضبطها أو توقع دورتها الزمنية. إلا أن ما نشاهده في مصر وتونس وليبيا، كل منها على طريقتها، يفيد أن الأمور تتراجع إلى الوراء وتزداد سوءاً بدل أن تتقدم، وأن الابتعاد عن الانتظام الاجتماعي والسياسي يتعاظم بدل أن يتقلص. وهذا مع العلم بأن عناصر التعقيد التي تتوفر في سوريا لا تتوفر بالضرورة في البلدان الثلاثة المذكورة. ومصدر الإلحاح على تسريع الأمور باتجاه الاستقرار لا يقتصر على الرغبة في توفير الدم وفي التقليل من الأكلاف الإنسانية تالياً. فإلى هذا الهدف النبيل، هناك أيضاً ضرورة قاهرة مفادها اللحاق بحركة العالم وبمسارات تقدمه، على الجبهة الاقتصادية أساساً ولكنْ أيضاً في المجالات الثقافية والمعرفية. والواقع أن ما يضاعف هذا الإلحاح كوننا نعيش في زمن العولمة الذي يختلف عن الأزمنة السابقة التي هي أبطأ بلا قياس. فاللحاق بالعصر الزراعي سهل، وحتى العصر الصناعي بمعناه الكلاسيكي القديم يمكن أن يتسع لآخرين أقل تقدماً. إلا أن العولمة التي تحرق المراحل وتجعل التاريخ يتقدم على إيقاع يومي هي مسألة أخرى أصعب وأشد تعقيداً. فكيف وأن تلك العولمة تتطلب من المهارات ما يستحيل بلوغه أو تطويره في ظل أوضاع من التوتر والتشنج والاحتراب الأهلي؟ لقد بات من الحقائق التي يتفق عليها كثير من علماء السياسة المعاصرين أن «الدولة الفاشلة» هي أبرز الأسباب المعيقة للاندراج في العولمة والمشاركة في قطف ثمارها. وهذا من دون أن ننسى أن الاقتصادات العربية، ومنذ ما قبل قيام الثورات، تقيم في موقع ضعيف ومتردٍ قياساً بالاقتصادات العالمية المتقدمة. وما يصح في الاقتصاد يصح في حركة الإبداع والابتكار وفي الإنتاج الثقافي على عمومه، حيث لا يزال يلزمنا الكثير للحاق بما ينتجه العالم. ولقائل أن يقول إن الثورات الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت تستغرق أزمنة أطول قبل أن يهدأ عصفها وتستقر على حال. لكن هذا، على رغم صحته المبدئية، يغفل عن المسألة البالغة الأهمية التي هي طبيعة الزمن وتغيّره ما بين تلك العصور الفائتة وعصرنا المعولم الراهن. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، المطالبة بأي «حل» كان، حتى لو جاء على هيئة الانقلابات، بحجة أن هذه الأخيرة هي وحدها ما يأتي بالاستقرار. والحال أن استدراكاً كهذا يبقى ضرورياً لسببين على الأقل، أولهما أن المؤسسات العسكرية كثيراً ما تستخدم الطلب الشعبي على الاستقرار لتنفيذ مآربها في الإمساك بالسلطة والتحكم بالمجتمع، وهذا ما يشهد عليه قدر كبير من التجارب التي نعرفها، في العالم العربي كما في سواه. أما السبب الثاني فأن ذلك «الخلاص» لن يكون الحل المنشود والمرتجى لأنه ببساطة سيعاود التأسيس لاحتقانات لا تلبث أن تنفجر مجدداً بعد زمن يطول أو يقصر. يصحّ هذا خصوصاً في البلدان التي تعرّضت طويلاً لحكم الأنظمة العسكرية والأمنية قبل أن تثور عليها. واقع الأمر أن التعجيل في بناء أوضاع مدنية مستقرة، يكون الحكم فيها للقانون، هو المطلوب اليوم قبل كل شيء. فنحن غير مرشحين لأن نشهد، بين عشية وضحاها، ولادة أنظمة ديمقراطية يضاهي أداؤها أداء الديمقراطيات العريقة في البلدان الغربية، بل جل ما نطمح إليه هو امتلاك القدرة على امتصاص العنف من خلال الاتفاق على مؤسسات دستورية تستطيع أن تعبّد الطريق لأنظمة ديمقراطية تواكب حركة العصر. والحق أن امتحان السرعة، بالمعنى المشار إليه أعلاه، ليس مجرد امتحان للثورات العربية ولمدى جدارتها في حمل المقاصد والأهداف التي رفعتها عالياً. إنه أيضاً، وأساساً، امتحان للمجتمعات العربية نفسها ولمدى جدارتها في أن تُسمى مجتمعات. فأن يمضي الاضطراب السياسي في مصر، وأعمال الاغتيال في تونس، وصراعات الفصائل المسلحة والمليشيات في ليبيا، فهذا ما يرقى إلى شهادة مسيئة بحق كل من مصر وتونس وليبيا، وبحق امتلاكها لإجماعات وطنية ولو في الحدود الدنيا. وهذا ما يحضّ على الإسراع في الخروج من دائرة التضارب والفوضى الراهنة والتوصل إلى عقد تسويات تاريخية تكون مؤسسة على عقود اجتماعية ينهض عليها استقرار تلك المجتمعات. لقد سبق أن شهدنا في العراق كم هي باهظة كلفة عدم التوصل إلى إجماعات وطنية كهذه. وكان من نتائج ذلك -فضلاً عن النزيف الدموي الذي يتسبب به استمرار العنف- أن بلداً غنياً وقوياً كالعراق يتراجع على الأصعدة جميعاً قياساً بسواه من الدول. حتى المشاكل التي يُفترض أنها بالغة البساطة، كتأمين التزوّد بالكهرباء، لا تزال تبدو عصيّة على الإنجاز هناك! لقد انقضى عقد كامل على إطاحة صدام حسين ونظامه من دون أن تتقدم بلاد الرافدين خطوة واحدة في اتجاه الاستقرار الصلب والسلم الأهلي المنشود. وهذه، والحق يقال، ليست التجربة الصالحة للتعميم على البلدان العربية الأخرى، ولا على أي من بلدان المعمورة التي تريد أن تعاصر عصرها.