منذ اندلاع الأحداث الدموية في سوريا سلمنا كلبنانيين أن كل شيء عندنا مرتبط بما ستكون عليه نتائجها. لم نفعل شيئاً في البداية تداركاً لتداعياتها، أو تحصيناً للساحة الداخلية، أو تحسباً لتدفق مئات الألوف من النازحين، أو حماية للاستقرار الداخلي. كل ذلك قبل أن نتدخل مباشرة وميدانياً على الأرض السورية. أقمنا حساباتنا من مواقعنا المختلفة على الأساس التالي: فريق اعتبر أن الأسد انتصر وأنهى العملية. وذهب ليستعدّ لمرحلة جديدة في لبنان تنسجم مع هذه النتيجة ويكون فيها الأقوى. وفريق اعتبر أن الأسد انتهى خلال أسبوعين وبدأ يُعد العدة لحكم لبنان وسوريا ربما وتصفية الحساب معه بمفعول رجعي. وقلة قليلة من الناس كانت تقول للفريقين: «مهلكم. لا تستعجلوا الأمور. اتركوا مكاناً للصلح في لبنان. اتركوا مكاناً للبنان. لبنان واللبنانيون لا يحتملون مثل هذه الحسابات وتحليلات التمنيات غير المبنية على الوقائع والحقائق والمعطيات المحيطة بالحرب السورية». لم تصح حسابات أي من الفريقين. دخلنا السنة الثالثة من حرب الحروب الممتدة على كل الأرض السورية والشاغلة لكل مراكز القرار في العالم. بدأنا نشعر بالتعقيدات والتشابكات والحمل الثقيل والكوارث والخراب والدمار والعبء على لبنان واللبنانيين والمخاطر المحيطة بكل دول الجوار. بدأنا نشعر بأننا نقطة صغيرة في دوائر «البازار» الكبير، الدائر حول سوريا. فتدخلنا مباشرة واهمين أننا نحمي نظاماً هناك واستقراراً هنا، أو أننا سنسقط نظاماً هناك ونقيم «نظامنا» هنا. وغرقنا من جديد. لا نفعل شيئاً لحماية استقرار بلدنا وأمنه. ولا أحد يهتم بنا ولا نكلف خواطرنا القيام بخطوات محدودة تبقي أبواب الأمل والحلول مفتوحة. بالعكس أغلقنا الأبواب. أسرنا أنفسنا بشعارات ومواقف وخطابات وشروط لا يمكن أن تنتج حلولاً حتى أصبحنا بلا انتخابات ومضطرين للتمديد للمجلس النيابي. وبلا حكومة. والحكومة المسماة حكومة تصريف أعمال لا تصرّف إلا الوقت وبشكل سيئ. البلد في فراغ. قد يمتد إلى رئاسة الجمهورية بعد أشهر بعدما تم تجنبه في قيادة الجيش ورئاسة الأركان بفعل التمديد أيضاً! نعيش وحولنا وبيننا أكثر من مليون نازح سوري حتى الآن والعدد إلى ازدياد مع اتساع دائرة الحرب في سوريا. ولا خطة ولا مساعدات جدية للدولة. هي مساعدات لجمعيات ومؤسسات باتت أقوى وأكثر حضوراً من مؤسسات الدولة. نعيش في ظل أزمة اقتصادية اجتماعية مالية خانقة. نكاد ننهي فصل الصيف بشكل لم نشهد له مثيلاً منذ سنوات طويلة. إنه الصيف الأثقل علينا. لا سياحة. لا سياح. لا استثمار. بل قلق. وفتن متنقلة وصواريخ تتساقط على مواقع مختلفة في البلاد ولا أحد يعرف من يقف وراءها، وشهداء للجيش والمؤسسات يقعون في غير المواقع الطبيعية لاستشهادهم وسرقات وجرائم قتل متعددة الأسباب، ولا نفعل شيئاً! بل حتى لا نفكر. نعم. نحن لا نفكر. نملأ الشاشات بالخطابات والبيانات والمواقف والاتهامات والتحليلات لكننا لا نفكر. لا نريد أن نفكر. لا نطرح على أنفسنا الأسئلة لنقدم الأجوبة ونقول للناس: هذا ما يمكن الإقدام عليه بهدوء وواقعية. اعتدنا الرهان على الخارج. والحلول من الخارج. اليوم، ننتظر حلاً سعودياً إيرانياً. لأن التوتر في لبنان يختصر بين فريقين. فريق تدعمه إيران وفريق تدعمه السعودية. وثمة من يقول إن مرحلة الـ«سين سين» أي التعاون السعودي- السوري التي راهنا عليها لإخراج تسوية في لبنان قد انتهت. لابد من «سين- ألف» اليوم أي تسوية سعودية- إيرانية وننتظر حصولها. كيف وعلى أي أساس وماذا يمكن أن نقدّم؟ لا شيء غير الممكن اليوم والذي كان ممكناً أمس وباستطاعتنا أن ننجزه. أو على الأقل أن نحضر الأرضية اللازمة والمناخ المؤاتي له. عندما نقول إن الأمور مربوطة أكثر من أي وقت مضى بما يجري في سوريا. وإيران شريك في الحرب هناك مع النظام ودفاعاً عنه. والسعودية تدعم الائتلاف المعارض، فهل نتوقع مثلاً اتفاقاً سعودياً- إيرانياً على الحل في سوريا؟ وهل المسألة بينهما أو عندهما فقط؟ ماذا عن أميركا وروسيا وأوروبا والغرب والعرب؟ إيران والسعودية دولتان أساسيتان. لا حل بدونهما. لكن الحل ليس عندهما فقط. ولذلك نرى التحركات السعودية والإيرانية في كل اتجاه. وربما الحركة السعودية هي أكثر اتساعاً نظراً لخصوصية الموقع والدور السعودي حيث لا قطيعة للمملكة مع أحد ولديها شبكة مصالح وإمكانات كبيرة يمكن توظيفها في أي دور أو توجه تقوم به. ويعني ذلك، أننا لسنا أمام مرحلة حل جذري للأزمة السورية. وبالتالي فإن أي تقارب سعودي إيراني مفيد جداً. ولكن لن يؤدي إلى حلول نهائية. وإذا لم تكن تسوية شاملة في لبنان، فماذا يمكن أن يحصل؟ إما البقاء في دائرة الفوضى الأخطر من الحرب، وهذا لا مصلحة لأحد فيه خصوصاً إذا ذهبت الأمور باتجاه التقارب المذكور أو التسوية المؤقتة لإدارة المرحلة الانتقالية في لبنان في انتظار معرفة اتجاهات الريح في سوريا، هذا عين العقل والحكمة وهذا ما كنا ولا نزال نقول به، وهذا ما كان يجب التركيز عليه دون انتظار نتائج ما يجري في سوريا. والتقارب السعودي- الإيراني اليوم مهم، إذا حصل، لكن حدود نتائجه هي كما ذكرنا. لو فكرنا من الأساس وسألنا أنفسنا الأسئلة الواقعية وتمعّنا في قراءة الواقع والمعطيات والمعادلات، لوفرنا على حالنا الكثير. فهل حصول التقارب سيعني موافقة إيران على سحب «حزب الله» من سوريا؟ وعلى تسليم الحزب سلاحه للدولة في لبنان؟ وعدم إشراك الحزب في الحكومة اللبنانية؟ وعلى تغيير النظام في سوريا؟ هذا وهْم. التقارب يعني التهدئة. التسوية المؤقتة في انتظار بلورة الحلول. ومع ذلك، من المفيد الاستعداد لمثل التقارب المراهن عليه اليوم، ومن الضروري أيضاً التفكير باحتمال عدم حصوله فماذا نفعل؟؟ ليس أمامنا إلا التقارب في لبنان. بديل التقارب هو التضارب والتحارب ونتائج التجارب السابقة معروفة. ليس أمامنا إلا الخروج من دوائر الأسر والانتظار -انتظار الآخرين- والتردد والانكفاء والانغلاق والإقدام والمبادرة لتحقيق حد أدنى من التفاهم. البديل عن ذلك المزيد من الفوضى والتوتر والقلق والخسائر والتراجع والانهيار وضعف الدولة. هل نفكر مرة بأنفسنا وبشريكنا الآخر في البلد، من تلقاء أنفسنا أم سنبقى ننتظر كل شيء من الخارج بما فيه الحث على التفكير؟