ديفيد جرايبر، مؤلف كتاب «مشروع الديمقراطية... التاريخ، الأزمة، الحركة»، الذي نعرضه هنا، كان أحد رواد حركة «احتلوا وول ستريت»، حيث لعب عدة أدوار في وقت واحد: دور الناشط، ودور الفوضوي ، والباحث الأنثروبولوجي. وهو في هذا الكتاب يسرد تجاربه، ويقتنص لحظات الفرحة والخوف في حركة اعتقدت جازمة أنها على تخوم تحقيق شيء بالغ الخصوصية. وهو لا يكتفي هنا بالكتابة عن الشكاوى المعتادة للمشاركين في الحركات الاحتجاجية، حول قسوة الشرطة، وضيق أفق وسائل الإعلام، وإنما يبذل قصارى جهده لشرح الأسباب التي جعلت إنجاز تلك الحركة ضئيلا للغاية في خاتمة المطاف. ورغم أنه كان من المتوقع أن تكون الحركة المناهضة للعولمة هي ذاتها عالمية، فإن ما تبلور على أرض الوقاع كان مختلفاً عن تلك التوقعات. ففي البداية تجاهلت وسائل إعلام التيار الرئيسي حركة «احتلوا»، وبعد أن استطاعت الحركة اكتساب زخم عندما تبادل مستخدمو الإنترنت المهتمين بالحركة، أفلام الفيديو والصور عنها على هواتفهم النقالة، أدرك المحررون في قاعات التحرير أنه لم يعد بمقدورهم تجاهل حركة يتحدث العالم بأسره عنها. الذيوع الإعلامي للحركة منحها دعماً قوياً للغاية من جماعات ومنظمات خارجية. وكان رد فعل اليمين الأميركي عليها كما يقول الكاتب متوقعاً، لكن استجابة اليسار الليبرالي كانت أكثر اضطراباً. وبعد تبني مبادئ الحركة لفترة قصيرة، سعت وسائل الإعلام الليبرالية للبحث في أسباب ضمورها. ولم يكن رد الفعل هذا من جانب وسائل الإعلام ومن جانب اليمين واليسار مثيراً لدهشة جرايبر، إذ كان يدرك أنه يعيش في دولة بها العديد من المحددات والقيود على النقاش الحر، مما يحول بين العديد من الأميركيين وبين التعبير عن آرائهم ورفع أصواتهم رغم ما قد تنطوي عليه من معقولية. كان لابد للمؤلف أن يتناول قسوة الشرطة في التعامل مع المحتجين، بعد أن استعملت معهم في البداية بعض أساليب المضايقة المعتادة في مثل هذه الحالات، مثل قطع التيار الكهربائي، ومصادرة المولدات التي بحوزة المحتجين، وبدء أعمال إنشاءات فجائية في الجوار حتى تغطي ضجتها على صخب المحتجين. ويذكر المؤلف بعض حالات استخدام العنف المتعمد وغير الشرعي ضد المحتجين، وكذلك حالات الترويع الواضح الذي تلجأ إليه قوات الأمن، والتي يصفها بأنها مسيسة ومعُسكرة خصوصاً ضد المحتجات. ولكن انتقاد الإعلام وأجهزة الأمن لا يجعل الكاتب يغفل عن التطرق لمظاهر الضعف التي كانت بالغة الوضوح في تلك الحركة، والتي أدت إلى محدودية النتائج التي ترتبت عليها، ومنها أن الحركة كانت تعرف مواطن الخلل في وول ستريت وفي الولايات المتحدة والعالم، لكن مشكلتها تمثلت في أنه لم يكن لديها سوى إدراك محدود لكيفية معالجتها، وكيفية تصحيح تلك الاختلالات. ويناقش المؤلف الإحباطات التي صاحبت أوباما في البيت الأبيض، والعلاقة بين السلطة والمال والنفوذ في العاصمة واشنطن، وكيف أن تلك العلاقة تحت حكم أوباما كانت مماثلة لما كانت عليه تحت حكم بوش الابن، رغم كافة وعود التغيير البراقة التي قدمها أوباما في حملته الانتخابية. ويؤكد المؤلف في هذا السياق أن سجل أوباما في مجال الحريات المدنية الداخلية ليس أفضل من سجل بوش، وإن كان يعود ليقول إن الكأس عندما يكون ممتلئاً لثلثه أو حتى لخمسه أفضل على كل حال من أن يكون فارغاً تماماً، وإن سجل أوباما يمكن أن يكون معقولا ومقبولا من قبل البعض خصوصاً إذا ما كان البديل له رجل مثل رومني. لكن عدم رغبة المؤلف في تحديد البدائل السياسية والاقتصادية المطلوبة تدعو للاستغراب؛ فهو يقصر تحليله على عملية الاحتجاج، ويرى أن العديد من المشكلات سوف تحل إذا ما تغيرت طريقة التعاطي السياسي، وهو يذهب إلى آخر المدى في شرحه كيف أن الديمقراطية بالتوافق هي الطريق الأمثل لحل المشكلات وإتاحة فرص متساوية للمشاركة في صياغة القرارات الكبرى. ويتنبأ المؤلف بظهور حركات مماثلة لحركة «احتلوا»، وذلك لسبب بسيط للغاية وهو أن الأشياء التي نشأت تلك الحركات اعتراضاً عليها لم تتحسن، كما يتنبأ بأن تتخذ تلك الحركات أشكالا أكثر عنفاً في المستقبل لأنها سوف تواجَه بالعنف -كالعادة- من قبل أجهزة الأمن، العنف الذي تعرضت له حركة «احتلوا» رغم من أنها كانت أكثر الحركات سلمية في التاريخ الأميركي، حتى وإن لم تكن تلك هي الصورة التي قدمتها أجهزة الإعلام بها. سعيد كامل ------ الكتاب: مشروع الديمقراطية... التاريخ، الأزمة، الحركة المؤلف:ديفيد جرايبر الناشر: سبايجل آند جراو تاريخ النشر: 2013