كانت القارة الآسيوية تعتبر، منذ زمن بعيد، هي مركز الثقل الديموغرافي على مستوى هذا الكوكب، مثلما أصبحت اليوم أيضاً هي المحرك الدافع للاقتصاد العالمي في سياقه العولمي الشامل. ويتوقع لها غداً أن تصبح أيضاً في قلب توازنات العالم الاستراتيجية والعسكرية. وعوامل الفرادة والقوة الآسيوية هذه هي ما يثيره ثلاثة كـُـتاب من أبرز المتخصصين الفرنسيين في الشؤون الآسيوية في عمل أصدروه هذا العام تحت عنوان: «عمالقة آسيا في 2025: الصين، اليابان، الهند»، يقدمون فيه قراءاتهم الخاصة لمستقبل التحولات الهائلة التي يتوقع أن يعرفها كل واحد من هذه البلدان الآسيوية الكبرى، خلال العقد الزمني المقبل. وينطلق المؤلفون هنا من معرفتهم العميقة بماضي وحاضر كل واحد من هذه البلدان الثلاثة، وتجميعهم بين دفتي الكتاب، الواقع في 173 صفحة، لكثير من قواعد البيانات والمعطيات الاقتصادية، والديموغرافية، والسياسية، والثقافية، والجيواسراتيجية، التي تسمح برسم ملامح مستقبلها، وأثر كل ذلك في مستقبل العالم من ورائها. ويشتهر الكاتب الأول من مؤلفي الكتاب جان- ماري بويسو خاصة، بدراساته وكتبه الشهيرة عن اليابان، التي باتت بمثابة أعمال كلاسيكية في مجالاتها، ومن أشهرها «نهاية النموذج الياباني» الصادر في سنة 2003، و«اليابان المعاصرة» الصادر في 2007. كما أن للكاتبين الآخرين أيضاً، فرانسوا جودمانت وكريستوف جافريلو أعمالاً ودراسات رصينة عن الشؤون الآسيوية. ويقر المؤلفون منذ البداية بأن استشراف ما ستكون عليه حال عمالقة آسيا الثلاثة بعد أكثر من عقد من الزمن يعتبر بمثابة تمرين ذهني سهل للغاية من ناحية، وصعب أيضاً ولا يخلو من مجازفة عالية من ناحية ثانية. فهو سهل، في ضوء إمكانية بناء أحكام واستنتاجات وتعميمات على معدلات النمو ومؤشرات تسارع قصة الصعود الاقتصادي والتغير الاجتماعي التي تشهدها الآن البلدان الثلاثة. ولكنه صعب أيضاً في ضوء صعوبة توقع مآلات التحولات الآسيوية الراهنة في سياقها العام. ثم إن طبيعة النظام السياسي الصيني مختلفة في طبيعتها عن نظامي البلدين الآخرين، إلا أنها أيضاً لعبت دوراً ملموساً في ترسيخ الاستقرار العام، وإن كانت ثمة دواعٍ للقلق على المستقبل. ولكن هذا النظام تمكن، على كل حال، طيلة فترة ربع القرن الماضية، من ضمان وتحقيق معدلات نمو اقتصادي قريبة من 10 في المئة. والنظام الصيني هنا لو قورن بما آل إليه حال الاتحاد السوفييتي السابق في أواخر عهده، لا يعطي الانطباع بالضعف، بل على العكس يدعو لافتراض قدرته على الاستجابة لتحديات المستقبل. أي أن النموذج الصيني يبدو هو الوجه الآخر للماركسية اللينينية الغنية المزدهرة، وهو يمكن أن يقدم هنا بذلك نموذجاً مضاداً لما كان عليه الاتحاد السوفييتي قبيل انهياره، حين كان قوة عظمى فقيرة، وشبه مفلسة، بل متضورة جوعاً. أما النموذج الياباني فلا يكاد يوجد خلاف بين المتخصصين الآن على أنه يعرف منذ سنوات حالة كسوف اقتصادي، لا تسمح بمقارنته بأي حال مع ما كان عليه أيام ما سمي «المعجزة اليابانية» خلال الفترة الزمنية الواقعة بين عقدي الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي. بل إن بعض كبار الاقتصاديين حينها كانوا يتوقعون أن تقفز اليابان سريعاً إلى المرتبة الأولى اقتصادياً على مستوى العالم، لتتجاوز الولايات المتحدة، وإن كان حضورها السياسي العالمي ظل على الدوام أقل من دورها الاقتصادي بكثير. ولكن اليابان تجد نفسها اليوم متأخرة عن الصين اقتصادياً، وما زالت تجهد لاستعادة معدلات نموها السابقة على عقد التسعينيات وبداية انحسارها الاقتصادي النسبي. ولا يوجد ما يمنع أن تستعيد خلال العقد المقبل حيويتها وإلهامها الاقتصادي والصناعي، وجاذبيتها وتنافسيتها الاستثنائية. ومن ناحيتها تصنع الهند الآن أيضاً قصة صعودها الخاصة، دون أن تكون هنالك إمكانية للحكم على مدى التفاعل وتبادل التأثر والتأثير في المستقبل بين القوة الاقتصادية المتنامية والأدوار السياسية الدولية المستقبلية المتوقعة، أو على الأقل تبدو المطامح هنا أقل وضوحاً في اللحظة الراهنة مما هي عليه الحال بالنسبة لجارتها الصين، لأن هذه الأخيرة تقدم نفسها رسمياً باعتبارها «ديكتاتورية شعب ديمقراطية يديرها الحزب الشيوعي». وبهذه الصفة صارت، أو ستصير بعد قرابة عقد من الزمن هي الاقتصاد الأول على مستوى العالم. وقد صمد هذا النظام مع الوقت، وتجاوز من المطبات، ما يدفع المراقبين للاعتقاد بإمكانية استمراره أيضاً لفترات أخرى قادمة، هذا على رغم عدم حدوث تغييرات مؤسسية أو دستورية سياسية موازية. ومع هذا يمكن أن تتكشف حالة اغتناء الصين المتواترة الآن عن أزمة سياسية اجتماعية ذات شأن. وهنالك أيضاً من المنتقدين الغربيين الأوفياء لبعض الصور النمطية السارية عن مجتمعات الشرق الأقصى، من يقدمون تصورات أكثر تشاؤماً بالنسبة لمستقبل الصين خاصة، اعتماداً على انخراطها الهائل، وغير المتحفظ، في اقتصادات العولمة، مع كل ما قد يرتبط بذلك من احتمالات انفجار واحتقان اجتماعي وتأزم اقتصادي وسياسي، يصعب التنبؤ بمآلاته النهائية. حسن ولد المختار ------ الكتاب: عمالقة آسيا في 2025 المؤلفون: جان- ماري بويسو وآخران الناشر: بيكييه تاريخ النشر: 2013