«قوات الجيش تعرقل تحقيقات الشرطة في الضفة الغربية، تسليم أراضي دولة للمستوطنين دون رقابة أو تفتيش... كل واحد يفعل ما يحلو له... والجيش الإسرائيلي لا ينفذ القانون في المناطق المحتلة خوفاً من المستوطنين». هذا بعض مما جاء في التقرير الأحدث لمن يسمى في الكيان الصهيوني «مراقب الدولة» (يوسف شابيرا)، والذي يصف ما يجري في الضفة الغربية من أفعال استعمارية استيطانية احتلالية إحلالية توسعية... حولت الضفة المحتلة لما يشبه الغرب المتوحش. وقد تناول التقرير «أملاك الحكومة» و«الأملاك المتروكة» في الضفة التي تمنح للمستوطنين دون مراقبة أو تفتيش أحد أو حتى دون توقيع عقد إيجار. وبذلك، سيطر المستوطنون والتجار الإسرائيليون على الأراضي الفلسطينية «المتروكة» دون أن يدفعوا لـ«الدولة» بدلا عن استخدامها، ما ألحق بخزينة «الدولة» خسائر مادية تقدر بـ 50 مليون شيكل سنوياً. وتحت سمع وبصر جيش الاحتلال الإسرائيلي، تواصل تنظيمات يهودية استعمارية (استيطانية) ارتكاب جرائمها. ولا يكاد يمر يوم دون أن يرتكب المستوطنون (المستعمرون) جريمة ما ضد الفلسطينيين: قطع أشجار الزيتون، تحطيم وحرق السيارات، منع المزارعين من دخول أراضيهم، الاعتداءات ضد المساجد... ما يؤشر إلى محاولات لإثارة حرب دينية تنطلق من أيديولوجية عنصرية، مع وجود رعاية رسمية إسرائيلية في ضوء التغاضي أحياناً عن ممارسات للمستوطنين، لاسيما في ظل حكومة يمينية هدفها الأوحد الموافقة على البناء الاستيطاني الجديد، والتخطيط لبناء مستقبلي في المستوطنات الواقعة في عمق الضفة أو القدس الشرقية، واعتماد سياسة رسمية تفضل تشريع بناء المستوطنات غير الشرعية، وإلى إنشاء مستوطنات جديدة، فضلا عن منح التمويل التفضيلي للمستوطنين والمستوطنات، بما في ذلك تمويل المشاريع للإبقاء على جميع المستوطنات كجزء دائم من إسرائيل. المستوطنون ليسوا حزباً يعمل بحسب قانون الدولة، بل هم عصابة تتحول تباعاً إلى مصدر سلطة «سيادية»، ما يحولها إلى أداة تطبق «القانون»، غير خاضعة تماماً للدولة الصهيونية، مثل جيش أو شرطة إسرائيل. وتتحمل حكومة نتنياهو جزءاً كبيراً من «إرهاب المستوطنين» من خلال سياستها وتعطيل ردها على العنف الاستيطاني. ونحن نشاهد كيف أن وتيرة هجمات المستوطنين، تحت حماية قوات الاحتلال الصهيوني، ترتفع، بل وتنفذ بشكل منتظم سواء في الضفة أو القدس. كما يأتي هذا الإرهاب مدعوماً ومسنوداً من الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) المتطرف عبر سن القوانين العنصرية، التي تسوغ لهؤلاء مواصلة إجرامهم المنظم. وباختصار، فإن حكومة إسرائيل تتعامل وكأنه لا مشكلة في استمرار الاحتلال إلى الأبد، خاصة وأن المستوطنين يعملون على صيغة تريد أن تثبت بأنه «لا يوجد سوى 1,5 مليون فلسطيني وكلهم يعيشون في غزة»! وهذا «نفتالي بينيت»، رئيس حزب «البيت اليهودي»، شريك نتنياهو في الحكومة، يقول: «حين أقرأ خطابات سخيفة تتحدث عن أن العالم سيعزلنا فوراً ويوجد آبارتايد، أي آبارتايد؟»! ومن جانب مقابل، تثير التنظيمات اليهودية المتطرفة، ضجة كبيرة في إسرائيل مع انتقادات غير مسبوقة وصلت إلى درجة مطالبة البعض بمحاكمة أعضائها، فيما وصفهم آخرون بالإرهابيين. ففي مقال بعنوان «زعران الحريديين والمستوطنين يُضعضعون دعائم وجود إسرائيل»، كتب «يهودا بن مئير» يقول: «الدولة التي تسامح في كرامتها وتتخلى عن احترام قوانينها وفرض القانون على فئات السكان جميعاً، لا كرامة لها، وتُعرض هذه الدولة نفسها لخطر التحطم وتضعضع الوحدة الاجتماعية والطاعة الوطنية. وينطبق هذا على كل دولة، وحسبُنا أن ننظر حولنا. لكنه ينطبق أكثر على دولة إسرائيل». وبشأن شكوى الجيش الإسرائيلي من حملة التنكيل والتحريض التي يتعرض لها الجنود المتدينون (الحريديم) على أيدي أقرانهم، اعتبر أن الأمر «استخفاف واحتقار عميق للدولة ومؤسساتها وقوانينها. وهي تعبر عن جو تشارك فيه دوائر أوسع كثيراً من المنفذين أنفسهم وترى أنه يجوز وأنه من المرغوب فيه استعمال العنف لإحراز غايات أيديولوجية، شعوراً بأنه يوجد من هم فوق القانون». ويسترسل «بن مئير» فيقول: «الدولة التي لا تعلم كيف تحمي جنودها في (قلب عاصمتها) ومواطنين آمنين مخلصين في بلدة أبو غوش العربية، هي دولة بلغت الإفلاس الاخلاقي والسلطوي. حان الوقت لتنعش الدولة نفسها وتستعمل سلطتها وصلاحيتها وثقل ذراعها المسوغ لمواجهة مراكز العنف الفئوي، سواء كانوا حريديين في القدس، أم شباب التلال (غلاة المستعمرين المستوطنين) في الضفة الغربية. وكلما كان ذلك أبكر كان أفضل». وفي السياق ذاته، يقول الكاتب «نداف إيال» في مقال بعنوان «الاحتلال ينزع الشرعية عن إسرائيل»: «في إسرائيل ثمة تيار فكري يحاول السيطرة ويريد أن يدمر فكرة الدولتين للشعبين؛ وهو يعتبر، مثلا، تصريحات الاتحاد الأوروبي بشأن الاستيطان وسياسته غطاءً رقيقاً، كرفع عتب». ويتابع: «كل شيء نشر في وسائل الإعلام. كل شيء كان علنياً. لكن أصحاب القرار عندنا فضلوا دس الرأس عميقاً في الوحل المغرق في النكران. والفلاحية توجد في اليمين المسيحاني الإسرائيلي الذي لا يفهم بأن دفن إمكانية الدولتين من شأنه أن يؤدي إلى نزع الشرعية عن دولة إسرائيل كلها. وهو بالإساس لا يفهم بأنه إذا ما فشلت المسيرة، فهذه هي فقط بداية المنحدر السلس نحو العزلة». ومما يشير إلى ما هو أخطر وأنكى، ثمة من يرى بأن إسرائيل أضحت تتشبّه بمحيطها، أي دينية لا حداثية ولا ديمقراطية. وبحسب الكاتب «آري شبيط» فإن «متطرفي اليهود يخرجون في هجوم... ضد الأقلية وضد الفرد وضد حقوق الإنسان... يحاصرون المحكمة العليا والصحافة الحرة والمجتمع المفتوح. هناك طوفان لم يسبق له مثيل من العنصرية على العرب، وكراهية للعلمانيين، واضطهاد للنساء يهدد بجعل إسرائيل المتنورة إسرائيل الظلامية... يحاولون جعل إسرائيل إيران... في البلدان العربية وفي إسرائيل أيضاً لم يتم فصل حقيقي بين الدين والدولة، فالمسجد والكنيس لم يُبعدا عن السياسة، ولهذا بقي عنصر ديني عميق في الهوية العربية والهوية اليهودية أيضاً... حان الوقت ليفهم اليمين العلماني أنه إذا تحولت إسرائيل إلى إيران، فلن يكون لها أي أمل. ستنتقض عُراها من الداخل وتُبتلع في الظلام الديني الإقليمي». وهكذا، فيما نرى، تتحول الدولة الصهيونية، الظالمة منذ لحظة الولادة، إلى دولة ظلامية.