تجاوز عدد ضحايا الأزمة السورية مائة ألف قتيل، مع تواصل الحرب الأهلية الدائرة هناك، طرح العديد من التحديات الأمنية والسياسية على المنطقة والقوى الدولية، لاسيما الولايات المتحدة التي تجد نفسها اليوم مطالبة بالتعامل مع الأزمة لاحتوائها ومنع انتشارها إلى باقي الدول، وأيضاً لإقامة التوازن الدقيق بين المصالح الأميركية الذاتية والاعتبارات الأخلاقية. فعندما اندلعت الثورة السورية سارع أوباما في الأسابيع الأولى بعدما ظهرت شراسة النظام وعدم استعداده للتفاوض مع المعارضة وتقديم التنازلات إلى المطالبة بتنحي بشار الأسد، حيث صرح في أوائل عام 2012 بأن «أيام الأسد باتت معدودة»، وهو الشعور ذاته الذي تردد صداه من قبل أعضاء بارزين في إدارة أوباما، بمن فيهم وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي قالت بصراحة في 1 إبريل 2012: «نعتقد أنه يتعين على الأسد الرحيل، وكلما قام بذلك في أقرب فرصة كان ذلك أفضل للجميع». لكن رغم هذه التصريحات التي تعكس رغبة أميركية واضحة في طي صفحة الأسد ونظامه في سوريا، مازال النظام مستمراً في دمشق بعد قرابة العامين على اندلاع الثورة التي تحولت من مجرد انتفاضة سلمية تطالب بسقوط النظام إلى حرب أهلية حقيقية. وقد مرت الحرب الأهلية السورية بمراحل عديدة بين البداية التي كان الزخم فيها لـ«الجيش السوري الحر» وفصائل الثوار المقاتلة، وبين المرحلة الراهنة التي يبدو أن النظام بدأ يحقق فيها تقدماً ميدانياً. ومع هذه التحولات تغيرت أيضاً لهجة واشنطن التي باتت أقل إصراراً على التنحي، لتبدو الرسالة وكأن الأسد لن يسقط أبداً، ما يعني أن نظامه قد يبقى قائماً في بعض المناطق السورية دون أخرى. وأمام هذا الوضع، وبعدما أحست جهات في واشنطن بأن نبرة الإدارة في تراجع حيال سوريا، سارعت إلى المطالبة بتوضيح الموقف، وهذا ما أصرّ عليه بعض أفراد الكونجرس مثل السيناتور جون ماكين وليندزي جراهام اللذين حثا الإدارة على الانخراط أكثر في الموضوع السوري، وطالبا البنتاجون بطرح أفكار وتصورات واضحة عن الخيارات العسكرية التي قد تلجأ إليها أميركا في سوريا. هذا الطلب رد عليه رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارتن ديمبسي، برسالة وجهها إلى لجنة الخدمات العسكرية بمجلس الشيوخ، أوضح فيها بصراحة سلبيات التدخل العسكري ضد قوات الأسد والأخطار التي ينطوي عليها أي تحرك عنيف في سوريا. وقد ناقش الجنرال ديمبسي جملة من الخيارات العسكرية التي تتراوح بين تدريب قوات المعارضة وشن ضربة جوية على أهداف تابعة للنظام، إلى إقامة منطقة لحظر الطيران، أو منطقة عازلة تمتد على طول الحدود التركية السورية، بالإضافة إلى تأمين الأسلحة الكيماوية السورية من خلال نشر قوات خاصة. وفي كل من هذه الخيارات أشار ديمبسي إلى الأخطار والتحديات الكامنة فيها ليرسم صورة متشائمة عن آفاق التدخل العسكري الأميركي ضد نظام الأسد. وكما قال ديمبسي بنفسه «سيكون علينا نشر الآلاف من القوات الخاصة لشن هجمات على مواقع حساسة». واللافت أن رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركي لم يأت على ذكر النشاط العسكري الذي تقوم به وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية داخل سوريا، والمتمثل في توفير الأسلحة الخفيفة لبعض عناصر المعارضة المسلحة، ولم يذكر شيئاً كذلك عن تفاصيل هذا النشاط مثل الطرق التي تسلكها شحنات السلاح والعناصر المعتدلة التي تتلقى الدعم. ومع انخراط «سي أي إيه» في الحرب السورية، يبقى المظهر الوحيد الذي يشير إلى تدخل عسكري أميركي في سوريا هو تقديم بعض أنواع الأسلحة الخفيفة! إلا أن ما تحتاجه المعارضة لقلب موازين القوة لصالحها، وهو الصواريخ المحمولة على الكتف والقادرة على إسقاط الطائرات وعلى التصدي للدروع، ليس في وارد الوصول إلى الثوار، حيث مازالت أميركا تعارض حتى اليوم نقل هذه الأسلحة إلى المعارضة، لاسيما أن الصواريخ المحمولة على الكتف من نوع «ستينجر» أثبتت كفاءتها بفعالية كبرى خلال حرب المجاهدين الأفغان ضد القوات السوفييتية في ثمانينيات القرن الماضي. وحسب رأي بعض المراقبين للحالة السورية، فإنه لا يكمن حل الأزمة في سوريا عبر إرسال المزيد من الأسلحة إلى أحد طرفي الحرب هناك، لأنها لن تساهم سوى في تعميق الصراع وإراقة مزيد من الدماء، لذا طالب المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، الأخضر إبراهيمي، بتوقف جميع الدول الداعمة لأطراف سورية عن تسليحها، لما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من إدامة الأزمة وصعوبة التوصل إلى حل سياسي. لكن أميركا لا تستطيع التخلي عن الثوار في هذه المرحلة، وإلا فإن ذلك سيعني هزيمة الثورة وانتصار الأسد ومعه روسيا وإيران. ولعل ذلك الاحتمال هو ما دفع بعض البلدان العربية السنية في الشرق الأوسط إلى التحفظ على دعوات الإبراهيمي فيما يخص وقف التسليح، كما أن الكونجرس الذي لمس تردد إدارة أوباما وشعر بمخاوفها من الانجرار مرة أخرى إلى حرب مكلفة في الشرق الأوسط، بدأ يضغط للتدخل، أو على الأقل من أجل تكثيف المساعدة للثوار والانتقال إلى توريد الأسلحة الثقيلة بدل الاكتفاء بالمساعدات اللوجستية والأسلحة الخفيفة، وذلك لقلب موازين القوة وإعطاء دفعة جديدة لـ«الجيش السوري الحر»، وإن كان الهدف النهائي ليس دحر الأسد كلياً، لأن ذلك سيكون هدفاً صعباً في ظل تواصل الدعم الإيراني وتدفق الأسلحة الروسية، بل مجرد الضغط عليه عسكرياً بما يكفي لدفعه إلى طاولة المفاوضات والاستعداد لمرحلة انتقالية تلعب فيها المعارضة دوراً أساسياً.