إذا كان هناك من شخص ما زال يشك في التداعيات الخطيرة للتردد الأميركي بشأن سوريا، ما عليه سوى الانتباه للتصريحات المثيرة التي أدلى بها مسؤولون أميركيون في الفترة الأخيرة. ولنبدأ بهرم القمة، فبعد سنتين من الإصرار على ضرورة تنحي الأسد، شرع البيت الأبيض خلال الأسبوع الماضي في التراجع الذي لا شك أنه جاء كرد فعل على الانتصارات التي حققها الأسد ضد الثوار خلال الآونة الأخيرة بدعم من الأسلحة الروسية ومساعدة إيران و"حزب الله"، فحسب اللغة الجديدة التي استخدمها البيت الأبيض على لسان "جاي كارني"، المتحدث الرسمي باسمه، فإن الأسد كما قال المتحدث "لن يتمكن في نظرنا مطلقاً من حكم سوريا كاملة"، وهو ما يعني أنه ما زال قادراً على حكم جزء، قليل أو كثير، من سوريا، وأن هذا هو الواقع الذي يتعين التعامل معه. والأكثر من هذه التصريحات ما كشفت عنه شهادة رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال "مارتن ديمبسي"، أمام الكونجرس التي أكدت التردد الأميركي بشأن سوريا، بل ربما كرست التراجع عن مواقف سابقة، حيث رد على سؤال السيناتور "ليندسي جراهام" حول ما إذا كان يعتقد أن الأسد سيظل في السلطة لعام آخر، قائلًا: "إذا لم نغير لعبتنا، فالأرجح أنه سيبقى في السلطة"، هذه التصريحات تعكس في الحقيقة فشل السياسة الأميركية التي كانت تهدف في الأصل إلى دعم الثوار المعتدلين وتنظيمهم في إطار قوة موحدة ومتماسكة تكون قادرة على التصدي للأسد ودفعه في النهاية إلى طاولة المفاوضات والبحث عن حل سياسي. لكن الإدارة الأميركية رفضت إلى غاية الشهر الماضي تقديم المساعدة العسكرية للجماعات المعتدلة ضمن الثوار، حتى هؤلاء الذين خضعوا لفحص دقيق من قبل وكالة الاستخبارات المركزية، فقد عارض أوباما خطة طرحها في الصيف الماضي مدير "سي. آي. إيه" وقتها الجنرال ديفيد بتراويس ودعمتها وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، وليون بانيتا والجنرال ديمبسي وتقضي بتسليح المعارضة. غير أن أوباما اعترض على الخطة بدعوى احتمال سقوط السلاح في أيدي المتشددين و"الجهاديين"، والحال أن "الجهاديين" لا يواجهون مشكلة في الحصول على السلاح من بعض الداعمين العرب، والنتيجة هي تعزيز مكانة المتشددين في خريطة المعارضة السياسية السورية ومدهم بإمكانات للتفوق على غيرهم. فالتنظيمات المرتبطة بـ"القاعدة"، وبفضل المال الذي تحصل عليه، باتت قادرة على استقطاب المقاتلين الأجانب، فضلًا عن سيطرة جماعات محلية مثل "جبهة النصرة" على العديد من البلدات والقرى، بل وصل بهم الحد إلى قتل قادة الثورة المعتدلين. هذا الوضع المقلق عبر عنه "ديفيد شيد"، مدير وكالة استخبارات الدفاع بمنتدى "آسبن" للأمن خلال الأسبوع الماضي قائلاً: "الحقيقة أنه إذا لم يُحجم دور المتشددين في سوريا، فإنهم سيصبحون أقوى، فعلى مدار السنتين الماضيتين تنامى حجمهم وتزايدت قدرتهم وفعاليتهم". وبعبارة أخرى، أدت السياسة الأميركية بمنع وصول السلاح إلى الثوار المعتدلين إلى عكس ما كان مقصوداً، وهو تعزيز قوة "الجهاديين"، بحيث صار لـ"القاعدة" موطئ قدم جديد، وهي تقوم بتدريب جيل جديد من المسلحين، كما أنها تؤجج الصراع الطائفي في العراق ولبنان، هذا في الوقت الذي يستمر فيه تدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان والأردن المجاورين بأعداد هائلة إلى درجة أن العاهل الأردني، الملك عبه الله، عبر عن مخاوفه. وفيما تتفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا، وتشتد حدتها، تتبدى أكثر السياسات الأميركية الفاشلة، لا سيما في دعم المظلة العسكرية التي ساعدت واشنطن نفسها في إقامتها خلال شهر ديسمبر الماضي والمعروفة باسم المجلس العسكري الأعلى بقيادة الجنرال، سليم إدريس، وكان الهدف منها ضمان عدم وصول المساعدات العسكرية التي تقدمها بعض الدول العربية للمعارضة إلى الجناح المتشدد، لكن بدلًا من ذلك أخرت الإدارة الأميركية تسليم حتى المساعدات غير الفتاكة لشهور عدة، ولم يسمح البيت الأبيض لوكالة الاستخبارات المركزية بإيصال المساعدات والأسلحة الخفيفة إلا في الشهر الماضي، وهي الخطوة التي يرى المراقبون أنها غير كافية لمواجهة صواريخ النظام وطائراته ومدفعيته الثقيلة التي يستخدمها ضد المدنيين، بل حتى هذه المساعدات الرمزية التي صادق عليها الكونجرس ما زالت تنتظر الوصول إلى سوريا، وبالطبع لا مؤشرات في الأفق على تغيير البيت الأبيض موقفه وسماحه بمد المعارضة بالأسلحة الثقيلة القادرة على مواجهة الآلة العسكرية للنظام ومنع الهزائم في ساحة المعركة. وتعبيراً عن خيبته، تساءل الجنرال سليم إدريس في حوار مع صحيفة بريطانية: "ماذا ينتظر أصدقاؤنا في الغرب؟ هل ينتظرون قتل إيران و"حزب الله" للشعب السوري؟" وإذا كان من المفهوم أن يتردد أوباما في الزج بالجيش الأميركي في حرب جديدة بالشرق الأوسط، إلا أنه من الصعب فهم امتناعه عن دعم المعارضة المعتدلة التي أدت فقط إلى تعزيز نفوذ "القاعدة" في سوريا وتهديد استقرار الدول العربية الصديقة، ولو استمرت الأمور على حالها وظلت المراوحة العسكرية بين النظام والثوار، فقد ينتهي المطاف بسوريا إلى الانقسام بين الأسد والمتشددين الإسلاميين، وهو ما حذر منه الجنرال إدريس قائلاً: "قريباً لن يبقى هناك جيش سوري حر لتسليحه بعد أن تسيطر الجماعات الإسلامية على كل شيء"، فهل يملك البيت الأبيض خطة لمنع انتصار الأسد الذي لن تستفيد منه سوى "القاعدة" و"حزب الله" وإيران؟ ترودي روبن كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"