حينما كانت الحرب الباردة بين الكتلة الشيوعية والاشتراكية والكتلة الرأسمالية، كان للعقيدة الشيوعية والاشتراكية وقع كبير في قلوب وعقول شريحة كبيرة من المجتمع العربي، وخاصةً أنها مطلية بالقومية العربية، وذلك يعود للقضية الفلسطينية ومحاربة الاستعمار والوضع المعيشي السيئ للمجتمعات العربية. فقد خلق انتشار الأيديولوجية العربية الاشتراكية وأفكارها في شريحة كبيرة من الشعوب العربية (في فترة ما بين الثورة المصرية 1952 إلى موت جمال عبد الناصر 1970) صراعات بين الدول العربية الملكية والدول العربية الاشتراكية المدعية أنها تقدمية في نهجها ومسيرتها، فتلك الصراعات بين الدول العربية الملكية والدول العربية الجمهورية حضرت في عقل وفكر ومتابعة الباحث الأميركي في الشرق الأوسط مالكولم كير، لكي يبلورها، ويصيغ أحداثها وإطارها بمصطلح الحرب الباردة العربية. حقيقةً، كان المصطلح معبراً عن الصراعات العربية- العربية خصوصاً في فترة من 1952 إلى عام 1970، حيث شكلت كل من السعودية ومصر طرفي نقيض في هذه الحرب، حيث السعودية تقود الدول الملكية ضد المد الاشتراكي العربي بقيادة عبد الناصر، وكانت هذه الحرب الباردة العربية لها ساحات عربية متعددة من اليمن ولبنان وسوريا والعراق، وكان يحاك فيها المصالح المتضاربة بين الطرفين التي يسميها البعض مؤامرات عربية عربية. الحرب الباردة العربية التي رسمها الأميركي مالكولم كير (1931-1984) قد انتهت بانحسار المد الاشتراكي العربي الذي أصبح في عقول الكثير من المجتمعات العربية صوراً من الديكتاتورية العسكرية والمبادئ الكاذبة والمستقبل الواهن، والذي ليس بسبب أفكارها ومبادئها حق عليه الفشل، بل بسبب من حملوها واستغلوها وصيروا عليها المستقبل، فكل ذلك واضح من نظام «البعث» العراقي و«البعث» السوري ونظام القذافي، فلا يوجد لدولة عربية واحدة ادعت الاشتراكية العربية وصاحت بالعروبة إلا وفشلت في تنميتها وتطورها في الداخل أو جلبت من سياساتها الخارجية المصائب والكوارث السياسية والأمنية للوطن العربي. ورغم انتهاء الحرب الباردة العربية، فإننا نعيش صراعات عربية عربية يمكن أن نطلق عليها الحرب الباردة العربية، وهذه الحرب تتشابه مع الحرب الباردة التي خلت بأن أحد أطرافها الدول الملكية وتختلف بأن الطرف الضد دول عربية أو مجاوره كإيران تقع/أو ستقع في قبضة التيارات الإسلامية. وهنا نعرض ما نفترضه من الحرب الباردة الجديدة وأطراف الصراع وصور واقعية عنه وأخيراً المشهد الإقليمي والدولي لهذه الحرب. أولاً: نظام الحرب الباردة العربية المعدّلَة/الجديدة: هذه الحرب قائمة بين معظم الدول العربية الملكية وبين التيارات الإسلامية السُنية والشيعية على حد سواء، وتلك التيارات الإسلامية، قد تكون في نظام سياسي حاكم أو جماعات منظمة سياسياً أو عسكرياً كالميليشيات الإسلامية كـ«حزب الله» و«القاعدة» أو ما يسمى بجيش «الإخوان المسلمين» في الوطن العربي. فالتيارات الإسلامية تمثل خطراً على الدول العربية الملكية لأن مبادئها وأفكارها وخططها تتعدى على سيادة وأمن الدول عبر الانتماء العابر للقطرية، كما أن تلك التيارات تهدد السلم والعرف الدولي في احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، والذي بدورهِ يمثل تهديداً حقيقياً على مكتسبات التنمية والاستقرار وشرعية النظم السياسية. ومما لا شك فيه أن هذه الحرب الباردة اتضحت بصورة قوية بعد «الربيع العربي»، الذي مهد الطريق لوصول التيارات الإسلامية إلى السلطة. أطراف وصور واقعية للصراع: فهذه التيارات الإسلامية في قالب حكم دول عربية وغير عربية، أو في قالب أحزاب وجماعات وميليشيات إسلامية تتصادم مع الدول العربية الملكية، لأن هذه التيارات تتصور إمكانية خلق خلافة إسلامية أو السيطرة على الدول الملكية عبر ولاء مواطنيها لها. نستطيع حصر الدول الملكية الأكثر فاعلية في هذه الحرب الباردة عبر الإمارات والسعودية والكويت كدول رئيسية في إدارة الصراع مقابل «الإخوان المسلمين» عبر مركزهم في مصر والتيار الشيعي في قم ونظام إيران الثيوقراطي. فسقوط «الإخوان» في مصر قوبل بدعم خليجي قوي جداً من الإمارات والسعودية والكويت كما هو طبعاً مرحب به من قبل فئة كبيرة من الشعب المصري، لقد مثل هذا السقوط لـ«الإخوان» في مصر صورة قوية للحرب الباردة، حيث قامت التيارات الإسلامية من الكويت إلى المغرب العربي برفض هزيمة «الإخوان» في مصر، لأن كل تلك الجماعة طرف رئيسي في الحرب الباردة مع الدول الملكية بقيادة الإمارات والسعودية والكويت. وهناك طرف آخر يقابل الدول الملكية العربية، وخاصة دول الخليج العربية في الحرب الباردة، فهناك مواجهة مع إيران والفلك الشيعي في الخليج، فعمائم قم وما تفرضهُ المذهبية الشيعية من ولاء لأئمة أصبحت تحرك مواطنين من دول عربية وخاصة في الخليج لزعزعة الأمن والاستقرار، وتحقيقاً لطموح امتداد شيعي في الجزيرة العربية. ولعل اضطرابات البحرين 2011-2012 شاهد على الصراع مع إيران والنفوذ الشيعي، فقد حركت إيران شيعة البحرين المغرر والمضلل بهم بروح الطائفية ضد نظام واستقرار مملكة البحرين، مما جعل دول كالإمارات والسعودية والكويت تتدخل لحفظ الأمن. وقد أكدت تلك الأحداث كيف يمكن تحريك مواطني دول أخرى عبر الانتماء المذهبي أو الفكري. ولعل العراق الواقع تحت النفوذ الإيراني عبر ما تتيحه المذهبية الشيعية من تلاقي في الفكر والأهداف مع الأحزاب والميليشيات الدينية الشيعية التي تحكم العراق تعتبر حلقة صعبة من حلقات الحرب الباردة العربية للدول الملكية، لأنها لم تستطع إنجاح انتقال السلطة في العراق إلى القوى العلمانية، بل مازال العراق بأيدي القوة الإيرانية في شكل سلطتها السياسية والدينية والأمنية. وأخيراً المشهد الإقليمي والدولي لهذه الحرب: ربما هذه الحرب ستكون لها ساحات أخرى في اليمن وتونس وليبيا، كما أن «الإخوان المسلمين» سيحاولون زعزعة الدول الملكية عبر عمليات تخريبية، مثال ما حدث في طرابلس للسفارة الإماراتية. أما الوضع الدولي من هذه الحرب، فيجب أن يتضح من خلال أن «الديموقراطية» التي تجلب «الإخوان» للسلطة هي خطر على الاستقرار والمكتسبات في دول الخليج والمنطقة العربية، لأن التيارات الإسلامية تهدف إلى إعادة أسس الخريطة الجغرافية ومسلمات وإنجازات الدول، وهنا يجب أن يُفاضل الموقف الدولي بين الديموقراطية التي تجلب التيارات الإسلامية للسلطة وبين الاستقرار وأمن المنطقة العربية. حميد المنصوري كاتب ومحلل سياسي