انتشر مصطلح "العالم الثالث" في عقود مضت، جنباً إلى جنب مع مصطلحي "العالم الأول - بلدان النظام الرأسمالي" وملاحقه، و"العالم الثاني - بلدان النظام الاشتراكي" وملاحقه، تعبيراً عن مستويات التقدم الاقتصادية والساسية والعلمية التكنولوجية...إلخ. وظل "العالم الثالث" إشارة إلى البلدان التي كانت تكافح من أجل ما تفتقده: استقلاليتها الوطنية وتقدمها التاريخي. بل إن هذا العالم الثالث ضُبط بمصطلح أكثر تحديداً، هو "بلدان التحرر الوطني من الاستعمار ومن العلاقات المتخلفة في الداخل. وقد أنجزت تلك البلدان خطوات من التقدم هنا وهناك. ولكن الاستعمار وامتداده في البلدان المذكورة المتمثل بـ"مجتمع ريعي"، لم يسمحا بتحقيق خطوات كبرى على هذه الطريق. فبمعنى ما من المعاني، خلق الاستعمار ركائز له في العالم العربي اقتصادياً وسياسياً وتعليمياً. وكنتيجة للتحركات والتغيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية لما يحدث في البلدان العربية المعنية، وكتعبير عن كثير من نتائجها، مثل الاستبداد والإفقار ومن ثم مثل الانقلابات العسكرية وما يتبعها ويرافقها، إضافة إلى ذلك وجود إسرائيل المزمن ودورها، على ما هو عليه، في تلك الأحداث المفتوحة، نقول، نتيجة لذلك كله، كانت الولادات العسكرية والسياسية والاقتصادية قد أتت بمثابة خريطة للبلدان العربية وكذلك بمثابة إيهام بـ"حدوث التغيير" المطلوب. فجاء الاستقلال الوطني في سوريا من الاستعمار الفرنسي من حيث إنه خطوة على طريق التحرر وربما كذلك التقدم. وهذا ما أنتج، بدوره وفي سياق ذلك، فقاعات من الصراعات السياسية والحزبية، كانت تنتهي بزعم يقوم على دخول البلد عالم تحرره وتقدمه، عبر تخلّصه من قوى الإقطاع والرأسمالية الشائهة وما رافقها من مظاهر زادت الاضطراب في التوجهات المجتمعية والرؤى الضبابية والطفولية القاصرة وغيرها. لم يكن الجيش بعيداً عن التأثيرات الارتدادية الناتجة عن تلك الطريق ما بعد الاستقلال الوطني، خصوصاً من حيث تركيبه الاجتماعي والطبقي والطائفي والسياسي...إلخ. وإذا خصصنا ذلك، قلنا إن ما حدث بين مصر وسوريا 1958 من وحدة، انفرط تحت قبضة الاستئثار بالسلطة، وأنتج حالة انتقام من "السياسيين"، الذين نُظر إليهم على أنهم عائق للتوحيد الوطني والوحدة القومية والتقدم المجتمعي. فخرجت السياسة من المجتمع مع صراعاتها العقيمة، كما كان يقال)، ومُنح الشخص العظيم تفويضاً أبدياً بالحكم، وحلت محلها كل الصراعات الأخرى، التي تأتي تحت خانة "الصراعات العقيمة تاريخياً، مثل الصراع الطائفي والمذهبي والفئوي، يداً بيد مع تعميم الرياضة العابثة وإفساد من لم يُفسد، وقد أتى ذلك برعاية "دولة أمنية" ترعى كل ما يحدث في المجتمع، بهدف إقصاء الرهانات الأخرى المحتملة للتغيير والحداثة والديمقراطية. أما الجيش الوطني، جيش الاستقلال فكان عليه أن يجد مكانه في سياق ما يحدث في المجتمع من تحويل مع غيره، إلى موقع الدفاع عن طائفة أو أخرى، مما عنى ثانياً إقصاء العناصر الوطنية الاستقلالية عنه، ومن ثم ثالثاً، تحويل الكبار فيه إلى رؤساء إدارات ومكاتب وشركات ومحاصصات وغيره في المجتمع. أما الحزب الحاكم الذي خرج بقسم من الكعكة، فقد أصبح هو من "يقود الدولة والمجتمع" باسم حزب ثوري وحدوي تقدمي. وكان هذا مسبوقاً بإعلان الجيش ذاك جيشاً "عقائدياً" تكمن مهمته، فعلاً، في الدفاع عن النظام القائم وفي تأييده. لقد أفقد هذا الجيش شخصيته العسكرية الحرفية، ومهمته المتمثلة في الدفاع عن الوطن حيال إسرائيل والطامعين في البلاد. وشيئاً فشيئاً أعيد النظر في بنية الجيش هذا، كتجمع قائم على المصالح وعلى حمايتها في القمة. واكتملت عملية إعادة النظر، حين نشأ كيان آخر يتمثل في "دولة أمنية" تضبط حدود المواقف كلها، بما فيها الجيش والحقول الأخرى جميعاً، مثل هذا الجيش العالمثالثي والعربي اكتسب اسمه البنيوي والوظيفي إذن من الغياب أو التفريط القسري بهويته الفعلية، نعني كونه مؤسسة عسكرية لحماية الوطن. د. طيب تيزيني أستاذ الفلسفة ــ جامعة دمشق