المجال أو الحقل السياسي هو ملك عمومي بامتياز لا يمكن تقسيمه أو تبنيه من فئة دون أخرى باسم الدين أو باسم أي شعار آخر، وقد يظن ظان أن الانتخابات الأخيرة التي عرفتها أقطار عربية هي قطيعة مع النزعة الشمولية السابقة، التي تئد التنوع والتعدد، والقبول بمبدأ الاختلاف كقاعدة للعقد السياسي الديمقراطي. ولكن ماذا يقع إذا لم تستبطن بعض الأحزاب فكرة الدولة، وفكرة المجال السياسي العام؟ وماذا إذا لم يوطّن الخاص والعام في نسيجه الثقافي والنفسي الوعي الديمقراطي الصحيح؟ الديمقراطية ليس فقط صناديق الاقتراع وإنما هي أيضاً وعي وثقافة وسلوك وإيمان راسخ واستبطان لفكر الدولة وتضمين لها في النسيج الثقافي والنفسي. لقد عانت العديد من الدول العربية كتونس وليبيا ومصر من فقدان الشرعية السياسية، فثار عليها الأولون والآخرون لأن الإذعان الاضطراري للقوة العمياء التي تمارسها نظم استبدادية مسألة وقت لا محالة، وغياب الثقة بين الحكم والمحكوم، أي فقدان الشرعية عند الأول مؤذن بخراب الحياة السياسية ومؤسساتها، فتجف ينابيع الحياة السياسية الطبيعية. وفرص التحول السريع إلى الديمقراطية مسألة في غاية الصعوبة والحساسية، ولا يعني مجرد إحداث ثورة شعبية أو تدخل دبابات أجنبية أن الديمقراطية سَتُثَبَّتُ أركانها، بل بالإمكان أن تتلاشى مكاسب الثوار ومساعي الحكام الجدد، بل قد يعجزون عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد الغلب من شوكتهم، فيصبحون مغلبين لكل متغلب، وطعمة لكل آكل. وأحيل هنا مرة أخرى نفسي والمتتبعين إلى كتابات وتحليلات فيليب شميتر وتيري كارل (وغيرهما كخوان لينز وألفريد ستيبان)، وهم من أكبر الدارسين والمتخصصين في الانتقالات الديمقراطية في العالم، حيث أكدوا في دراساتهم للتجارب العسيرة والمريرة التي مرت بها العديد من الدول في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية والجنوبية، أن من بين الأنماط الأربعة للانتقالات الديمقراطية المعروفة (عن طريق ثورة، أو عن طريق ديمقراطية مفروضة من الخارج، أو بتأثير الدول المجاورة، أو عن طريق الميثاق التعاقدي)، يبقى نمط الميثاق التعاقدي هو أنجع وسيلة لتثبيت أركان الديمقراطية الحقة دون إراقة الدماء وزوال المؤسسات وهيبة الدولة. وبالإمكان أن تكون للأنماط الأخرى تجسيدات في بعض الدول، ولكن غالباً ما تحدث وتتقوى بوادر الفتنة لفقدان الحامية وضعف الدولة الحديثة، حيث تصبح مرتعاً للمذاهب والطوائف والنِّحل، ونهباً وطعمة لآكليهم، يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم ولاختلاف الأيدي وانحراف السياسة... وقد كتبنا هذا الكلام وقلناه مراراً وبالأخص في هذه الجريدة الغراء وفي منتديات «الاتحاد» السنوية عند بداية الثورة في تونس. والوقائع اليوم وللأسف الشديد في مصر وفي تونس تزكي هذه النظريات الواقعية، فالانتقال الديمقراطي أضحى أكثر تعقيداً وأكثر ضبابية بل بات من باب المستحيل بعد قيام توجهين خطيرين داخل المجتمع المدني، إن لم نقل معسكرين مدنيين منذرين بزوال هيبة الدولة وفقدان الثقة بين النظام السياسي والمحكومين، وهو أكبر زلزال سياسي واقتصادي واجتماعي يمكن أن يصيب مجتمعاً من المجتمعات ولو كان ديمقراطياً، لأن الثقة إذا أزيلت بين الحكم والمحكوم فإن العصيان المدني سيصبح هو القاعدة وسينمو الاحتقان الاجتماعي وتعم الفوضى وسيصبح الأمين مذنباً والطاغية مؤتمناً وسيتلوث المجال السياسي بالمرة... هذا الذي بدا يقع اليوم في مصر. وتثبيت الديمقراطية يبقى رهيناً بالمسار الذي يعطيه الفاعلون للتحول: فإما أن يؤدي بالبلاد والعباد إلى بر التغيير الجذري الذي يخلق منظومة معرفية وتطبيقية سياسية كاملة حول الحق الطبيعي والتعاقد والمواطَنة، وإما إلى واد غير ذي زرع من سلطوية جديدة. والأجدر بالفاعلين الكبار عندما تصل دولة من الدول إلى نقطة التحول الديمقراطي (التي لا تعني إطلاقاً وصول قاطرة الديمقراطية نهائياً) هو إعمال العقل وإعادة قراءة دور المؤسسات والدولة في هذا المجال السياسي الجديد، وتصور قانون أسمى للبلاد وإعماله بطريقة سريعة ومرْضية للجميع عن طريق الاستفتاء الشعبي. ورياح الديمقراطية إذا هبت ونمت تكون صناديق الاقتراع هي الحكم الفيصل، وتكون الأحزاب السياسية هي الممثل والمجسد للطلبات الاجتماعية، وتكون هي المتبارية داخل حلبة الصراع السياسي، وكل حزب يجب أن يكون جزءاً من اللعبة السياسية كباقي الأحزاب بما في ذلك الأحزاب الإسلامية ويجب أن يكون هناك إجماع على قواعد اللعبة السياسية، وأن يكون هناك قانون أسمى وهو الدستور المتوافق عليه، وإلا ظهرت الفتنة والقتل مجتمعان. ويجب أن تكون هناك قوانين تنظيمية تصدر من رحم البرلمان، ممثلي الشعب الذين ارتضاهم لينوبوا عنه في التسيير وإصدار القوانين. ولكن كل هذا شريطة أن يستبطن الحكم والبرلماني المشرع تحويل النظام السياسي الجديد إلى مِلكية عمومية باسم مفهوم حكم الشعب بالشعب بعيداً عن الاحتكار السياسي والاستئثار الفئوي أو المذهبي باسم الدين أو باسم مبدأ ما أو شعار ما لا يحظى بالإجماع الاجتماعي أو القبول داخل قواعد العلوم السياسية المقارنة، وإلا ظهرت شمولية أخرى تسيء إلى المبدأ أو المرجع الذي تستند إليه أكثر مما تدافع عنه كما هو حال إشكالية الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين. وتبقى آليات الانتقال عبر التوافق التعاقدي، هي الانتقال الذي ينطبق عليه مفهوم عقلنة التغيير الكفيلة بإحداث ثورة ديمقراطية هادئة بعيداً عن ويلات الفوضى والمجهول وإمكانية الرجوع إلى سلطوية أشد فتكاً وأكثر خديعة ومكراً.