مرة أخرى تمتحن الكويت نفسها، حكماً ومجتمعاً، أو بالأحرى تمتحن تجربتها الديمقراطية. وقد شهدت قبل أيام انتخابات تجرى للمرة الأولى خلال شهر رمضان، ولكن طقوس الصيام لم تؤثر سلباً على نسبة الإقبال على الاقتراع، مثلها مثل حرارة الصيف. في المرة السابقة، أواخر شهر نوفمبر، لم يكن الناخبون صائمين، وكان الطقس ربيعياً، لكن الإقبال على التصويت كان أقل. فالكتل السياسية الخمس التي خاضت حراكاً سياسياً دعت إلى المقاطعة احتجاجاً على قانون «الصوت الواحد للناخب الواحد»، وسجلت استجابة لهذه الدعوة، ومع ذلك انتخب برلمان جديد. ثم مرّ قانون الانتخابات تحت مجهر المحكمة الدستورية ليخرج منها «محصناً»، إلا أن إجراءات تنظيم الانتخابات السابقة شابها خلل دستوري استوجب عملياً إلغاءها وبالتالي حل المجلس الذي انبثق منها. وهكذا عاد الكويتيون والكويتيات إلى صناديق الاقتراع بعد ثمانية أشهر لانتخاب مجلس الأمة الرابع عشر. كثرت التساؤلات منذ عام 2006 عن أسباب المواجهة شبه المفتوحة بين الحكم والحكومة من جهة والبرلمان من جهة أخرى حتى استوجبت إجراء ستة انتخابات خلال سبعة أعوام. كان قانون الانتخاب أتاح للكتل السياسية (الحركة الدستورية الإسلامية، حركة العمل الشعبي، حزب الأمة الإسلامي غير المعترف به رسمياً كـ«حزب»، التحالف الإسلامي السلفي، والمنبر الديمقراطي)، أن تقيم تحالفات في ما بينها، واستطاعت أن تطرح أجندتها على مسار العمل البرلماني. وتحت عنوان «إصلاح العمل الحكومي» و«حماية المال العام» أمكن لهذه الكتل أن تبني للمرة الأولى ما يمكن أن نسميه «لعبة سياسية» غير المألوفة في التجربة الكويتية، على رغم أنها شهدت في ثمانينيات القرن الماضي مواجهات حكومية- برلمانية على نطاق ضيق. لم تكن حركة المجالس الأخيرة مألوفة لأنها أكثرت من استخدام حق الاستجواب، وتوصلت إلى استدعاء رئيس الوزراء للمرة الأولى، إذ استفادت من فصل منصب ولي العهد عن منصب رئيس الوزراء. وبالتالي أصبحت تتحكم بالاستقرار الحكومي. في انتخابات فبراير 2012 بلغت اللعبة السياسية ذروتها، إذ توصل تحالف تلك الكتل إلى إحراز تسعة وثلاثين مقعداً من أصل خمسين، وتقلصت كتل «الموالاة» لمصلحة توسع «المعارضة» التي وجدت أن من حقها الاستئثار بأكثرية حقائب الوزارة، (تسع من أصل ست عشرة). ولم يكن الحكم مستعداً لتسليم حكومته إلى المعارضة. وهكذا بدأ التأزيم باكراً جداً واستمر حتى خريف تلك السنة إلى أن حسمه الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح بقانون «الصوت الواحد» الذي أصدره بـ«مرسوم ضرورة». عندئذ نزلت المعارضة إلى الشارع آملة في تشكيل رأي عام معارض لهذا القانون، غير أن المنازلة لم تحل دون إجراء اقتراع وفقاً له، على رغم مقاطعة جمهور المعارضة ولاسيما في صفوف القبائل الكبرى. عملياً بدأت المعارضة تخسر غداة انتخابات نوفمبر الماضي، رغم الحكم على البرلمان الخارج منها بأنه هزيل وأن تمثيله غير متوازن (حصل الشيعة على سبعة عشر مقعداً، واعتبر التمثيل القبلي غير مؤثر). ومع أن هذا المجلس لم يعمّر طويلاً إلا أن عدداً من الحقوقيين يعترف بأنه أعاد النشاط إلى التشريع شبه المعطل منذ عامين على الأقل. وفيما أطلقت المعارضة أفكاراً جديدة أبرزها إيلاء رئاسة الوزراء إلى أشخاص من خارج الأسرة الحاكمة، إلا أنها أملت بأن تعمد المحكمة الدستورية إلى إسقاط «قانون الصوت الواحد»، وإذ خاب أملها بعد قرار المحكمة أصبح أقطاب المعارضة يركزون الآن على «الحاجة إلى تعديل الدستور» أو حتى إلى دستور جديد، استناداً إلى أن المجتمع الكويتي تغيّر، وأن «العقد الاجتماعي» السابق بين الأسرة والتجار لم يعد صالحاً لإدارة العلاقة بين الحكم والمجتمع بعد تعاظم دور قوى جديدة، أهمها القبائل، ترى أن ذلك «العقد» لا يلبي حقوقها ولا مصالحها. لعل أهم دلالات الاقتراع الأخير أنه سجل بداية «مصالحة» بين الحكم والقبائل، إذ عادت هذه المشاركة في الانتخابات، ما شكل تصحيحاً للتمثيل. كان اختلال العلاقة مع الحكم أبعد القبائل عن مربع الموالاة الذي مكثت فيه تقليدياً لتتقارب مع الكتل الأخرى المراوحة بين الليبرالية والإسلام السياسي. ويفترض أن يشكل القبليون المنتخبون تكتلاً يحفز الليبراليين على إنشاء تكتل آخر، لكن وفقاً لـ«لعبة سياسية» مختلفة الشروط والقواعد. إذ أن جدول أعمال البلد يتضمن خططاً للتنمية تنتظر منذ أعوام أن يحصل توافق بين الحكومة والمجلس على أجندة واحدة. مع كل انتخابات، حتى لو كانت متقاربة، تتجدد الوجوه. ولعل السمة الغالبة أن ثمة جيلاً شاباً من المرشحين والمنتخبين بدأ يفرض نفسه، وعليه أن يثبت أهليته للمهمة. فالمجتمع يحيل عموماً إلى الاستقرار، ولذلك فهو قد يتعاطف مع «المعارضة» لكنه لا يمضي معها إلى أبعد، وقد يؤكد تمسكه بالأسرة الحاكمة ويدعمها آملاً بهذا الاستقرار، إلا أنه يريد أيضاً برلماناً واعياً وكفؤاً وإلا فإنه سيحاسبه في أول فرصة. عبدالوهاب بدرخان كاتب ومحلل سياسي - لندن