كنت من بين الذين طالبوا في بداية موجة "الربيع العربي" باتباع آليات العدالة الانتقالية التي أظهرت نجاعتها في ساحات عالمية شهدت مسارات التحول من العهود الاستثنائية الأحادية إلى مسلك الديمقراطية التعددية. بيد أن بلدان "الربيع العربي" اختارت في مجموعها آلية التقاضي التقليدي لتصفية تركة الأنظمة الاستبدادية، حتى في البلدان مثل تونس التي شكلت وزارة للعدالة الانتقالية. ومن المعروف أن العالم العربي عرف قبل سنوات تجربة ناجحة ومتميزة من تجارب العدالة الانتقالية هي التجربة المغربية التي مكنت من تسوية ملفات حقوق الإنسان المرتبطة بالصراعات السياسية الحادة التي عرفتها البلاد في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. ولقد سمحت التجربة المغربية من تطبيع الوضع السياسي وإعادة بناء قواعد الممارسة الديمقراطية على أسس توافقية جديدة. استفاد المغرب أوانها من تجربة جنوب أفريقيا على رغم اختلاف السياق والمعطيات، من خلال اعتماد مبدئيها الرئيسيين: حقوق الذاكرة (الحقيقة والاعتراف) ومقتضيات المصالحة (أخلاقيات التسامح والعفو)، مع تحمل الدولة مسؤولية التعويض المادي والرمزي للضحايا والمتضررين. ليس لمفهوم العدالة الانتقالية صيغة واحدة، لكنه في مختلف أشكاله وتجاربه يقوم على مبدأ الانتقال من "ماض مشتت" بتركته الصدامية إلى "مستقبل جامع" ينعقد فيه التوافق بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين على أسس جديدة للتعايش المشترك. تطبق آليات العدالة الانتقالية عادة في حالتين بارزتين هما: الحروب الأهلية التي تمزق النسيج الاجتماعي بحيث ينتفي البناء المؤسسي للدولة بما فيه الجهاز القضائي، والانتقال من الأحكام الاستثنائية القمعية للديمقراطية التعددية. في الحالتين ليس بإمكان العدالة التقليدية أن تقوم بوظائفها كاملة نتيجة لسببين أساسيين هما: اتساع دائرة المسؤولية والتباس الجاني والخصم في الكثير من الحالات. ولقد شكلت أفريقيا في العقدين الأخيرين ساحة تجريب واسعة وناجحة في غالب الأحيان لآليات العدالة الانتقالية، سواء في البلدان التي مرت بمحنة الحرب الأهلية (روندا وليبريا والسيراليون والكونغو.... )، أو في البلدان التي عرفت مسار التحول من الأنظمة العسكرية الأحادية والقمعية نحو النظام التعددي (مالي وبنين والتوغو... ). في الحالة الأولى نصبت أشكال من المحاكم الشعبية بإشراف قضائي وسياسي سمحت بإماطة اللثام عن الجرائم والانتهاكات ضمن مبادئ الاعتراف والمسامحة والتعويض (مما لا يلغي آلية القضاء الجنائي الدولي لمعاقبة الجرائم ضد الإنسانية)، وفي الحالة الثانية شكلت مؤتمرات وطنية سيادية بمشاركة كل ألوان الطيف السياسي والمدني عهد إليها بتصفية تركة العهود الاستثنائية وإعادة بناء النسق السياسي بما فيه البنيات الدستورية الإجماعية. في البلدان العربية، اتبع مسلك آخر، بدءاً من العراق الذي جرى فيه بإيعاز من سلطات الاحتلال الأميركية تفكيك البناء المؤسسي للدولة بما فيه الجهاز العسكري والأمني، وتحولت تصفية النظام الاستثنائي إلى تصفية طائفية أفضت لفتنة أهلية متفاقمة. وفي بلدان "الربيع العربي" باستثناء الحالة اليمنية التي تبلورت فيها صفقات ناجحة بين الفاعلين السياسيين للانتقال الهش للتعددية الديمقراطية، لجأت السلطات المؤقتة والمنتخبة إلى مبدأ التقاضي التقليدي للتعامل مع تركة العهود السابقة، فاعتقلت رموز الأنظمة المخلوعة وحلت الأحزاب الحاكمة السابقة وفتحت ملفات انتهاك حقوق الإنسان في سياقات سياسية متأزمة. ما نريد أن نبينه هو أن الصدام قائم حالياً في الساحات العربية المذكورة بين منطق العدالة الذي يسير في اتجاه إنصاف الضحية ومعاقبة الجاني ومنطق السياسة الذي يقوم قبل كل شيء على مبدأ السلم الأهلي والميثاق التعاقدي الجماعي. كتبت الفيلسوفة اليهودية الألمانية - الأميركية "حنة أرنت" التي كانت من ضحايا الجرائم النازية والمشاركين في محاكماتها بعد الحرب العالمية الثانية أن المسامحة شرط أساسي للخروج من المأزق الذي قد تفضي إليه العدالة المطلقة. وقد اعتبرت "أرنت" أن ملكة العفو تفتح آفاق الربط والتواصل بين البشر وتقدم على غرار ملكة "الوعد" حلاً لمعضلة هشاشة واحتمالية النشاط البشري المشترك، فهي الصيغة الوحيدة الممكنة للتعامل مع الحالات القصوى غير القابلة للإصلاح والتعويض. العفو من هذا المنظور يحرر الفعل الإنساني من الدائرة المغلقة للانتقام غير المجدي ويقيم مجالًا جديداً غير متوقع، فهو بهذا المعنى ليس محواً للشر ولا مشروطاً به، بل هو تأكيد لأسبقية كرامة الإنسان على الجرائم العينية التي يرتكبها البشر مهما كانت فظاعتها وتوحش مرتكبيها. تختلف المسامحة الطوعية عن مبدأ العفو القانوني الذي هو من الحقوق السيادية للحاكم لكونها لا تقوم على أي من مقاربات المقايضة والتسويات العملية، فهي بهذا المعنى فعلاً أقصى بل "مستحيلاً" بلغة الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" الذي يرد على قولة "هيغل" الشهيرة بأن كل شيء قابل للعفو باستثناء جرائم "انتهاك الروح" بأن المسامحة لا يكون لها معنى إلا إزاء ما لا يقبل المسامحة وإلا كانت نمطاً من الممارسة الغائية الموجهة بأهداف أخلاقية أو اجتماعية هي المقصودة (مقتضيات الصحة النفسية والاجتماعية). لقد اعتبر "دريدا" أن نموذج العدالة الانتقالية الذي بلورته التجربة الجنوب أفريقية التي أشرف عليها "القس دوسموند توتو" أعادت إنتاج النموذج المسيحي للاعتراف - التحول - المسامحة ثم تم تصدير النموذج لبقية العالم بما فيه الساحات غير المسيحية. في تقليدنا الإسلامي تراث ثري للعفو والمسامحة يمكن أن يكون قوة دافعة للبناء الاجتماعي في بلدان معرضة لتفكك النسيج الوطني، مما هو جلي في العراق وسوريا وبوتيرة متباينة في بقية بلدان "الربيع العربي". إن الخطر الذي يواكب مسارات العدالة في لحظات التأزم السياسي يكمن في صعوبة تجرد المؤسسة القضائية من شوائب ومؤثرات الصراع السياسي، مما ظهر جلياً في سياقات عربية معروفة. لا يتعلق الأمر بالسكوت على الجرائم والانتهاكات، ولا التنكر لحقوق الذاكرة والحقيقة، وإنما المقصود هو تفادي المزيد من التجاوزات والسمو بالفعل السياسي. ولنتذكر قولة "نلسون مانديلا": "العفو يحرر الروح، فيذهب الخوف، ولذا كان العفو سلاحاً لا يقهر".