في رسالة بعث بها إلى سيناتور سابق وتم نشرها الأسبوع الجاري، أقسم مسرّب أسرار "وكالة الأمن الوطني" إدوارد سنودن بأن الحكومة الروسية لا تمتلك أية طريقة يمكن أن تسمح لها بالحصول على معلومات حساسة منه. واعترف بأنه نزل في مطار موسكو خلال الأسابيع القليلة الماضية وهو يحمل أجهزة الكمبيوتر المحمولة الأربعة "اللاب توب" التي يدور حولها الاتهام بأنه يستخدمها لتسريب أسرار الوكالة. وجاء في رسالة «سنودن» إلى السيناتور السابق جوردون همفري: «ما من وكالة استخباراتية بما فيها وكالاتنا نحن، تمتلك القدرة على كشف الأسرار التي أواصل تصميمي على التكتّم عليها وحمايتها. ويمكنك أن تأخذ الأمور ببساطة لو أنك علمت أنه ليس في وسع أحد إكراهي على كشف المعلومات حتى لو تعرضت للتعذيب». ويسود اعتقاد قوي في أوساط المجتمعين التجاري والاستخباراتي في الولايات المتحدة بأن أية أجهزة إلكترونية يتم إدخالها إلى موسكو (أو هونج كونج) لابدّ أن يتم التحقق منها من قبل الوكالة الوطنية لمكافحة التجسس. وربما يكون «سنودن» قد قلّل من شأن القدرات التقنية للمصالح الأمنية الروسية، وربما يكون قد بالغ في المقابل في تقييم قدراته التقنية الذاتية. ولكن، هناك احتمال ثالث: وهو أن «سنودن» يقول الحقيقة عندما يزعم أنه لا توجد لديه نيّة للكشف عن أية معلومات حساسة. وعندما غادر الولايات المتحدة، كان يحمل أربعة أجهزة كمبيوتر تسمح له مجتمعة بالدخول إلى بعض أكثر الأسرار المتعلقة بحكومة الولايات المتحدة حساسية، مثلما وصفتها صحيفة «الجارديان»، ولكنه لا يمتلك هذه الأسرار بالفعل الآن، ومن المحتمل أن تكون أجهزة الكمبيوتر الأربعة فارغة تماماً، كما يمكن أن تكون تلك الأسرار قد أودعت مكاناً آخر. وليس قبل أن تبدأ تسريبات «سنودن» بالظهور في الصحافة، كانت واشنطن تشك بما إذا كان المدير السابق لأنظمة التشغيل هو مجرد إنسان صاخّب أم يمثل نوعاً جديداً من الجواسيس. وكان الافتراض الأخير قد تعزز بشكل كبير عندما ظهر الرجل في هونج كونج، وحيث من المفترض أن يكون في وسع الصينيين اختراق محتويات أجهزة الكمبيوتر الأربعة التي يحملها بسهولة، ثم ما لبث أن ظهر في موسكو. وحتى لو لم يعبر عن أية رغبة في التعاون مع الحكومات المعنية هناك، فسوف يكون في وسعها تفريغ أجهزة اللاب توب الأربعة حتى آخر ملف فيها. وإذا كانت تلك الملفات مشفّرة، فإن ذلك سيبطئ العمل إلا أن الأسرار لابدّ أن تصبح في متناول الأعداء آخر المطاف. ويعتمد فكّ لغز هذه المعلومات على «سنودن» دون سواه، فهو عرّاب معظم وكالات المخابرات الأميركية، فهل يُعقل أن يكون غافلاً تماماً عن تقييم القدرة الحقيقية لروسيا والصين في مجال اختراق أنظمة المعلومات، أو هل كان يخطط منذ البداية ليكون عميلاً لدولة أجنبية؟. كلا الاحتمالين غير وارد. لأن من المعلوم أن الجواسيس المحنّكين ليس من عادتهم أن يطلبوا حق اللجوء السياسي إلى دستتين كاملتين من دول العالم مرة واحدة. وليس من طبائع رجل ذي باع طويل في مكافحة التجسس مثل سنودن أن يقدم على مثل هذا العمل الدنيء. وكما قال لهمفري: «لقد كان أحد الاختصاصات التي أعمل فيها يتركز على تعليم رجالنا في وكالة المخابرات الدفاعية كيف يحتفظون بمثل هذه المعلومات الحساسة بعيداً عن الاختراق حتى في أكثر البيئات المضادة للعمل الاستخباراتي انطواء على الخطر مثل الصي». ولا شك أن أفضل طريقة لمنع هذه المعلومات من الاختراق تكمن في عدم امتلاكها نهائياً. وكلما أعملت عقلك في تأمل وتدبّر قصة "الكمبيوترات الأربعة"، كلما بدا لك الأمر وكأنه مجرّد خدعة مفبركة في كل من واشنطن وموسكو لإبقاء الجواسيس في حالة يقظة وتأهب. فلماذا سيحتاج «سنودن» كمبيوترات لنقل بيانات وكالة الأمن الوطني إذا كان في وسعه نقلها على قرص صلب بحجم قبضة اليد ويكفي لتخزين «تيرابايت» من المعلومات (أو ألف جيجابايت)؟، ولماذا يحمل كل هذه المعلومات أصلاً، وهو العارف بأنه سيكون هدفاً سهلاً لوكالات الاستخبارات الغربية التي (لا يمكن لأحد أن يفلت منها) كما قال لهمفري. وحيث أضاف: «إذا أراد هؤلاء القبض عليك فسوف يفعلون ذلك في الحال». وكان يمكن لهذه المسرحية أن تنطوي على قدرٍ أكبر من الذكاء لو كان الإنسان الذي يتمتع بهذا النفوذ هو غير سنودن، أو بمعنى أوضح لو سمحنا لأحد تلامذة سنودن بامتلاك هذه البيانات السرّية، أو لو قمنا بتقسيمها وتوزيعها على دستة من اللاعبين الآخرين. ويقول أعضاء فريق سنودن إنهم تمكنوا من هندسة نظام تشفير يدعى "المُبدّل الرقمي للرجل الميت" يمكنه عرض سيل عرمرم من المعلومات في حال انشغال الولايات المتحدة بالتصدي "لعمل متطرّف خطير". وتم تصميم النظام بحيث يتم تشغيله في استظهار المعلومات في حالة غياب سنودن لا بحضوره. وفي عالم عاقل، لابد أن تكون للمحتويات السرّية المفترضة التي دسّها سنودن في أجهزة الكمبيوتر الأربعة تداعياتها القانونية. ولعل أخطر مظهر لخرق "قانون الجاسوسية" هو الذي يتمثل في نقل المعلومات المصنفة تحت بند السرية المطلقة إلى أيدي دولة أجنبية، وهو سلوك أكثر خطورة من إفشاء أسرار يمكن استغلالها لتعريض الأمن الوطني للولايات المتحدة للضرر (يعاقب القانون على الخطيئة الأولى بالإعدام، وعلى الثانية بالسجن 10 سنوات). إلا أن العالم ليس عاقلاً على الدوام. ففي يوم الخميس الماضي، تمت إدانة «برادلي مانينج»، الذي سرب معلومات وصفت بأنها "مساعدة للعدو" ضمن سلسلة تسريبات ويكيليكس، وهي المعلومات السرّية التي سبق لبن لادن أن اطلع عليها في موقع إخباري على الإنترنت. ومهما كان محتوى أجهزة الكمبيوتر الأربعة لسنودن، فإن من المرجّح أن يواجه عقوبة صارمة لو فكّر ذات يوم في العودة إلى الولايات المتحدة. وعلى أن العقوبة التي تنتظر «سنودن» ترتبط بالطريقة التي استخدمها في تسريب المعلومات، وما إذا كانت أجهزة اللاب توب الأربعة فارغة أم ملأى. ويرى بعض المسؤولين أنه ربما يكون قد قام بعمل مشين لو ثبت بالفعل أنه وضع أسرار أميركا بين يدي فلاديمير بوتين. ولكن، ماذا لو لم تكن لديه أسرار حتى يفشيها لغيره؟ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ نوا شاشتمان كبير محرري مجلة "فورين بوليسي" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"