لا يملك أحد يهتم لحال العالم العربي إلا أن يشعر بقلق بالغ من التفكك الذي بلغ مداه في منطقة المشرق العربي تحديداً. فبمراقبة ما يجري من أحداث بدءاً من العراق شرقاً إلى لبنان غرباً يبدو المشرق العربي وكأنه يسير نحو التدمير الذاتي. ولكن ما الذي يمكن القيام به لعكس هذا المسار؟ فمن ناحية هناك سوريا المنخرطة في انتحار جماعي بالنظر إلى ما تشهده من حرب أهلية تهدد بتمزيقها بدعم ومساندة قوى خارجية، وقد تحولت إلى ساحة لإراقة الدماء على أساس طائفي. ومن ناحية أخرى يبرز العراق الذي لم يتمكن بعد من التصالح مع نفسه على رغم مغادرة القوات الأميركية، حيث تقتل التفجيرات اليومية العشرات من المدنيين فيما أثبتت الحكومة الطائفية في بغداد عجزها المريع عن تلبية احتياجات السكان، وانصرافها إلى ملاحقة المعارضين واضطهادهم. وبالحديث عن حالة العجز لابد من التطرق إلى لبنان الذي يعاني الأمرّين، بسبب تداعيات اندلاع الأزمة السورية على داخله الهش، وقد بات يترنح هو الآخر على شفا حرب أهلية. هذا دون أن ننسى أيضاً الانعكاسات السورية الخطيرة على الأردن الذي يستقبل مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، واحتمال تأثير ذلك على استقراره. وبالطبع تتواصل المعاناة في فلسطين المفككة والمنقسم شعبها كما كانت في السابق دون جديد يُرجع الأمل إلى أهلها ويعيد لهم أرضهم المحتلة. وكأن ذلك لا يكفي يعاني أيضاً اللاجئون الفلسطينيون في سوريا من أيام عصيبة تدفعهم للتدفق على لبنان المكتظ أصلاً والهش بتوازناته الطائفية ما يخلق أجواء غير مريحة من التوتر والاحتقان. وعلى رغم الأنباء الأخيرة عن احتمال انطلاق عملية السلام مجدداً يشاهد الفلسطينيون في الأراضي المحتلة كيف يبتلع الاستيطان ما تبقى من أرضهم، فيما جدار العزل يخترق الضفة الغربية، وكل ذلك في ظل استمرار معاناة غزة تحت الحصار الإسرائيلي. وهذه الأزمات والأعطاب تنبه لها في عام 2002 وزير الخارجية البريطاني الأسبق، جاك سترو، عندما قال «إن عدداً من المشاكل التي تعاني منها بريطانيا في الشرق الأوسط يرجع إلى تداعيات الماضي الاستعماري»، حيث كان سترو يشير إلى ما أسماه «الماضي غير المشرف» لبلده في المشرق العربي والمتمثل في خيانة بلاده وعودها للعرب بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيم المنطقة بموجب معاهدة «سايس بيكو» الشهيرة. والحقيقة أن وزير الخارجية البريطاني كان مصيباً، إذ بمنع تشكل الدولة العربية الموحدة في المشرق، وبتقسيم المنطقة الخارجة لتوها من تحت عباءة الإمبراطورية العثمانية بين النفوذين البريطاني والفرنسي وتقسيمها إلى دويلات، وباستغلال التنوع الديني في المنطقة لضرب الطوائف بعضها ببعض والتهيؤ لخسارة فلسطين، تكون بريطانيا وفرنسا قد مهدتا الطريق للمشاكل الكبيرة التي يغرق فيها المشرق العربي اليوم. وربما يتساءل البعض ماذا كان سيبدو عليه المشرق العربي لو أن الرئيس الأميركي وودرو ويلسون فعّل مبادئه في تقرير المصير وضغط كي ترسم شعوب المنطقة مستقبلها بعد العهد العثماني؟ لكن مثل هذه الأسئلة التاريخية لا تسعفنا في التعامل مع أزمات الواقع الراهن، ولذا وعلى رغم تحسر وزير الخارجية البريطاني الأسبق على أخطاء الماضي، ليس الحل في الرجوع إلى التاريخ، بل في إجراء تقييم موضوعي لما يمكن القيام به للتعامل مع الحاضر بمشاكله المعقدة. وقد حاول عرب المشرق على مدار القرن الماضي معالجة مظالمهم التاريخية، حيث رفضوا الخضوع للمحاولات الأجنبية الرامية إلى شق صفوفهم من خلال توظيف التنوع الطائفي وطوروا كبديل لذلك مفهوم القومية العربية لتكريس هوية تتسامى فوق الانتماءات الدينية. ومع الأسف تم استغلال الهوية العربية الجامعة من قبل بعض الأنظمة العسكرية التي سعت إلى دغدغة عواطف الناس للوصول إلى الحكم واحتكار السلطة، ليفقد مفهوم العروبة مصداقيته، ليس لذاته، بل لتوظيفه السيئ من قبل الأنظمة القمعية. ولعل الأمر المثير الذي كان يلفت انتباهي في جميع استطلاعات الرأي التي أجريناها طيلة عقد من الزمن هو استمرار الهوية العربية حاضرة في وجدان شعوب المنطقة باعتبارها الهوية الجامعة التي تتجاوز التنوع الطائفي. فرغم الصراعات الطائفية التي اندلعت في العراق، وارتكاز النظام السياسي في لبنان على محاصصة الطوائف وامتيازاتها، ظلت الهوية الرئيسية للعراقيين واللبنانيين عندما كنا نستطلع آراءهم هي العروبة، ثم الدول القطرية التي ينتمون إليها. وعندما سألنا أفراد الجهور في المشرق لماذا ينشغلون بما يجري في العراق، أو سوريا، وفلسطين، تكون الإجابة المشتركة «لأنهم عرب مثلنا». وهذه الهوية الجامعة هي ما يدفعني للاعتقاد بأن مستقبل المشرق العربي ليس بالضرورة الغرق في أتون الصراعات الطائفية المدمرة، كما لا أتصور أن تقبل شعوب المنطقة على نفسها أن تتحول دولها إلى رقعة شطرنج ملونة بكانتونات طائفية. وليس أيضاً من المنطقي أن تحدد أجندة المشرق العربي إيران، أو «الإخوان المسلمون» في ظل حضور هوية عربية تتجاوز بروابطها التاريخية والثقافية واللغوية التنوع الديني الموجود. ولذا فإن ما يحتاجه المشرق العربي للخروج من وضعه الحالي هو الثورة ضد التفرقة الطائفية والاعتراف بعدم جدوى السير في هذا الطريق، وهو ما يمكن تحقيقه، كما رأيت ذلك، من خلال تعاون جيل جديد من رجال الأعمال الشباب من مختلف الطوائف. هذا ولا يمكن التضحية بالروابط المشتركة التي يؤسس لها الانتماء العربي فقط لأن أنظمة بعينها استغلت هذا الانتماء لتسويغ جرائمها. ولكن حتى يخرج المشرق العربي من أجوائه الطائفية المقيتة ويتعافى من صراعاته العقيمة لابد من توافر قادة يملكون الرؤية والعزيمة لمواجهة القوى المصممة على تدمير المنطقة.