اختلفت ردود الفعل على الحدث المصري اختلافاً كبيراً بين إيران وتركيا، فبينما صبرت إيران مُبْدية بعض الأسى والأسف على ما حصل لمرسي و«الإخوان»، سارعت وسائل إعلامها في سوريا ولبنان إلى دعم الثورة الثانية، واتهام «الإخوان» بالتعاون مع أميركا وإسرائيل! والمفارقة أن هذا التردد الإيراني المخلوط بالرضا، قابله سخط شديد من جانب الأتراك على «الانقلاب» وعلى إسقاط الشرعية الدستورية! ولا تزال التصريحات التركية تتوالى في دعم الرئيس السابق، وفي تجفيف العلاقات مع مصر الثورية، مثل إيقاف تصدير السلع التركية إلى الخليج عبر مصر، ودعوة دول الاتحاد الأوروبي لإنكار الخروج على الشرعية، ودعوة الأمانة العامة لمجلس التعاون الإسلامي للإنكار أيضاً. وقد بلغ من خبث الإيرانيين أن أرسلوا وزير خارجيتهم صالحي إلى أنقرة لينصحوا تركيا بعدة نصائح ملغومة منها التهدئة مع العسكر بمصر، والتهدئة مع نظام الأسد، والانصراف عن الاتفاق مع الأكراد! فما هو السبب الحقيقي لذلك الثوران الأردوجاني؟ وهل الإيرانيون وحلفاؤهم بالشام راضون حقاً عن انهدام حكم «الإخوان»؟ ما كان «الإخوان» المصريون شديدي الانبساط من أردوجان، فقد اعتبروا صيغته غير ممكنة لمصر، أي صيغة الجمع بين العلمانية والإسلام. و«الإخوان» يعتبرون دولتهم دولة مدنية، لكن نموذجهم المعاصر هو دولة الولي الفقيه بإيران. وعندما يجادلون في ذلك، يقولون إنه لابد من تطبيق الشريعة لكي تكون الدولة إسلامية، فهم ليسوا مع الفقيه وولايته لأنهم سنة، لكنهم مع الفقه نفسه أو مع أصله الذي هو الشريعة. وقد اقتنع أردوجان بعد لأي بأنّ العسكر والغرب لن يسمحا بدولة دينية في تركيا، وبأن الدولة الدينية غير ممكنة، فهي تقسم الناس بالداخل، وتقدم فئات على فئات فتفجر المجتمع، وتضع البلاد كلها في عين العاصفة. وما تقبل الغرب غير دولة دينية واحدة هي الكيان الإسرائيلي، وسيظل يعمل على التخلص من النظام الإيراني الذي لم يجلب له ولنفسه غير المتاعب والانسدادات! ولذا ففي المرة الوحيدة التي زار فيها أردوجان مصر، صدم «الإخوان» بنصحهم بالتسليم بالدولة العلمانية التي يحكمها حزب إسلامي، مثل تركيا! وقال لهم: لا تفعلوا ما فعله أربكان، فجنى على نفسه وعلى الدولة، وأخّر سقوط حكم العسكر عدة سنوات! وعندما ذهب أردوجان إلى تونس فاجأه الغنوشي بالموافقة على أطروحته. ولذا فقد أغدق العطايا على تونس الغنوشية أكثر مما فعل لمصر الإخوانية. فقد كان الرجل خارجاً من تجربة مخجلة في ليبيا، ظل خلالها مع القذافي إلى ما قبل سقوطه بثلاثة أسابيع. ولذا أراد التعويض في مصر. وبالفعل فما كان قليلاً ما أعطى وبذل عدة اتفاقيات تجارية كلها لصالح مصر، وأقرضها ملياري دولار. وتحدث إلى الأوروبيين والأميركيين وصندوق النقد الدولي بشأن مساعدة مصر وإقراضها. وإذا لم يكن الغربيون يصغون إلى آراء أردوجان في الديمقراطية، فإنهم هم والأميركيون يستمعون جيداً إلى آرائه الاقتصادية، بعد النجاح الكبير الذي حققته التجربة التنموية في عهده، والتي بمقتضاها صار الاقتصاد التركي رقم 17 بين اقتصادات العالم. لكن مصر «الإخوان» كانت أكثر وداً مع طهران، والتي سارعت إلى عرض 15 مليار دولار على مصر شريطة قطع علاقاتها مع إسرائيل! وما انتهت فصول التقارب بين الطرفين خلال شهور بسيطة قبل انتخاب مرسي وبعده. وتمضي إيران أكثر من ذلك عندما تذهب إلى أن «حماس» تخلت عن المقاومة وعقدت اتفاقيات مع إسرائيل بتوسط المخابرات المصرية. والواقع أن الشراكة ما تأخرت بين الأطراف الثلاثة إلى هذا الحد بحيث تفسد بتغير علائق «حماس» بالأسد، بل تعود على الأرجح إلى ما بعد حرب عام 2006، وحرب عام 2008 -2009. وقد تبين أن لـ«حماس» و«حزب الله» تنظيماً بداخل مصر وقتها، كما تبين أن «الإخوان» استعانوا بـ«حماس» و«حزب الله» يومي 26 و27 يناير - 2011 لإخراجهم من السجون، وتخريب تسعين مركز شرطة. بادر مرسي بعد انتخابه بعشرة أيام لاقتراح لجنة رباعية لحل النزاع السوري مكوّنةً من مصر وتركيا وإيران والسعودية. وما حضرت السعودية غير اجتماع واحد، وأخبرت مرسي أن مصر حرة في سياساتها وتتمنى لها النجاح، لكنها ترى أنه لا يجوز إدخال إيران طرفاً بينما هي تقف بكل قواها لجانب النظام السوري؛ بينما تحاول دول الجامعة العربية عزل النظام وإسقاطه! وجاء عشرات المسؤولين الإيرانيين إلى مصر، وذهب مرسي ثم ذهب مستشاروه إلى طهران، وتحدثوا عن اتفاقيات تجارية وسياحية. وظلّ مرسي وموظفوه صامتين عما يجري في سوريا لسنتين وثلاثة أشهر، كما ظلت العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري قائمة. وفي التصريحات العلنية ظلت مصر تقول إنها مع الحل السياسي للأزمة السورية، وإنها لا تقبل التدخل الأجنبي، وقالت مراراً للإيرانيين وللروس إنها تقبل وجهة نظرهم في الحل! رغم أن الثورة السورية ازدادت تلويناتها الإسلامية، كما أن «الإخوان المسلمين» السوريين مشاركون فيها، وأكثر الدول العربية مشت ضد النظام القاتل، فكيف بمصر أم الثورات؟ يقال إن الحرص على العلاقة مع طهران هو الذي وضع مصر في هذا الموضع، والحساسية المتنامية تجاه السعودية ودورها. وهذه السياسة تجاه الأزمة السورية، وإن لم تفد أي طرف إفادة كبيرة، فقد أساءت إلى مصر في عيون العرب والعالم، وأظهرت «الإخوان» بمظهر من لا يأبه لمصالح العرب والمسلمين! وهناك أبعاد أخرى لمثلث مصر -تركيا -إيران. فتركيا ما كان عندها بمصر غير حليف واحد هو «الإخوان المسلمون». بينما كانت إيران ولا تزال تملك حلفاء عديدين، وبين سائر الأطياف، وبخاصة اليساريين والعروبيين وبعض الشبان الذين لا يزالون معجبين بـ«نصرالله» وقتاله لإسرائيل. فعندما سقطت بلدة القصير بيد «حزب الله» بعد مذابح، ما وجد «نصرالله» من يهنئه من «الإخوان»، بينما سارع قوميون ويساريون بمصر (محمد حسنين هيكل!) إلى التهنئة والتبريك، أما بالنسبة لـ«الإخوان» فكانت القصير المسوغ لقطع العلاقات بالنظام السوري والدعوة لمقاتلته! وهناك البعد الآخر، والذي وضع مصر الإخوانية على الهامش فعلا في هذه العلاقة الثلاثية. فمنذ أواخر 2012 ازدادت العلاقات التركية الإيرانية تردياً. فقد اتسع الافتراق بين موفقي البلدين من الأزمة السورية. وانزعجت إيران من تنامي العلاقات بين تركيا والأكراد، ثم اتجاه تركيا للاتفاق مع أكراد أوجلان دونما عودة للتشاور مع طهران. وحلت تركيا وقطر محل إيران في رعاية «حماس» ودعمها. وعندما وقعت الواقعة بمصر أخيراً جاء وزير الخارجية الإيراني إلى أنقرة واجتمع بأوغلو ثلاث ساعات. وقال الإيراني إنه أراد المراجعة مع الأصدقاء الأتراك، وكان من رأْيه عدم الحماس في دعم «الإخوان» بمصر لأنهم تخاذلوا كثيراً أمام أميركا وإسرائيل، وضغطوا على «حماس» لتترك الكفاح ضد إسرائيل. وما وافقه أوغلو على ذلك. وكان هناك خلاف كبير بشأن تدخل إيران في سوريا ومشاركتها نظام الأسد في قتل الشعب السوري. وما اتفقوا أيضاً على الموقف من الأكراد، وكان رأى الإيرانيين أنه لا أمل في حل المشكلة الكردية بهذه الطريقة، لأنها ستؤدي إلى وضع يشبه وضع أكراد شمال العراق. وقد أتى صالحي إلى أنقرة في وقت ضعف أردوجان وجراحاته المتكاثرة. فالذين يتظاهرون ضده في ميدان تقسيم والميادين الأخرى أكثرهم من العلويين الأتراك. والذين يقال إن النظام السوري له علاقة بهم. وقد طالت الأزمة السورية، وما استفادت تركيا منها شيئاً غير ازدياد أعداد اللاجئين. ويتعرض اتفاقها مع الأكراد لمشكلات كبيرة يقال إن لإيران ضلعاً فيها. وبينما يعتبر «الربيع العربي» كله مشكلة ضخمة لطهران، فإن تركيا التي أيدته تبدو بمظهر الأكثر خيبة منه. فبعد انتكاسة ليبيا، أتى طول الأزمة السورية، وأتت الآن انتكاسة مصر، والتي يخشى أردوجان أن تتكرر بتركيا نفسها. إيران الدولة الدينية هي الخاسر، لكنها تكابر وتتذاكى. وتركيا النامية والديمقراطية هي الرابحة في «الربيع العربي»، لكن أردوجان مجروح لأن أبناءه عاقون، ولأنه لا يتصور عودة للعسكر من أي نوع!