كشف الصحفي التشيلي (خوان كريستوبال) من خلال كتابه (الحياة الأدبية السريّة لأوغستو بينوشيه)، كيف كان هذا الديكتاتور الذي أشتهر إبّان حكمه بإحراق الكتب، والزج بالكتّاب وبمعارضيه في السجون والمعتقلات، يهتم باقتناء الكتب حيث كانت مكتبته تضم أكثر من خمسين ألف كتاب عند موته، وتُعتبر الأضخم في تشيلي إن لم تكن بأميركا اللاتينية، وتقدّر قيمتها بثلاثة ملايين دولار. يُخبرنا كريستوبال أن مكتبة بينوشيه كانت تقتصر على كتب التاريخ والجغرافيا، وتلك التي تتحدّث عن الفكر الماركسي الذي كان يعتبره عدوه اللدود وحاربه بأقسى الوسائل، متسائلاً بخباثة إنْ كان هذا الطاغية يهتم بقراءة الكتب! لكن "كريستوبال" يعود ويُبرر هوس بينوشيه بجمع هذا الكم الهائل من الكتب، إلى أنه كان يُعاني في أعماقه من خواء فكري، وأنه أراد أن يُقنع نفسه بأنه إنسان مثقف واسع المعرفة، ليعوّض عقدة النقص بداخله كونه كان في صغره يُعاني صعوبة في التحصيل الدراسي، ورسب مرتين في المدرسة العسكرية! توقفّت عند تفاصيل الكتاب، وتساءلت.. هل الطغاة يحرصون على قراءة الكتب لإيمانهم بقيمة المعرفة، أم ليتعرّفوا على طريقة تفكير معارضيهم؟! هل يستعرضون اقتناء الكتب، لمداراة خوفهم، وتغطية مشاعر الكره الدفينة في أعماقهم للثقافة والمثقفين؟! هل إحساسهم الدفين بأن المفكرين هم الذين يُغيرون واجهة التاريخ، جعلتهم يقفون لهم بالمرصاد في ظلام الليل ويتحينون الفرص للانقضاض عليهم، أم أن الفضول دفعهم إلى التنقيب في نتاجهم ليكتشفوا كيف يؤثّر المثقفون في الناس ويجذبونهم إليهم؟! من وجهة نظري الطغاة لا وقت لديهم لقراءة الكتب، فهم مشغولون باضطهاد شعوبهم! ولو توقفوا لحظة وأطلعوا على كتب التاريخ لاعتبروا مما جرى لأسلافهم! لكن الطغاة ذاكرتهم معطوبة لا يفكرون إلا عند مواضع أقدامهم! حضرت في ذهني وأنا أقرأ تفاصيل كتاب "كريستوبال"، قصة حياة الروائيّة التشيلية (إيزابيل الليندي) التي تم نفيها من تشيلي إلى فنزويلا بعد الانقلاب العسكري الدموي الذي قاده الديكتاتور بينوشيه، وقُتل فيه عمها (سلفادور الليندي) الرئيس التشيلي بذلك الوقت. إيزابيل التي جاوزت السبعين اليوم حرصت أيامها على تجسيد تلك الأحداث الأليمة من خلال روايتها الأولى (بيت الأرواح)، ونجحت في أن تجعل أدبها وثيقة مهمة تتحدّث عن العصر الذي شهدته. وهو ما يؤكد وجهة نظري بأن الطغاة ذاكرتهم معطوبة تدور في حلقة الأنا المتضخمة، ولو استخلصوا العبر من الكتب التي كُتبت عن تواريخ الطغاة، لما آلت حال الشعوب المضطهدة بالعالم إلى هذا الدرك من المآسي، وثارت على حكّامها الطغاة ورمتهم من المباني الشاهقة! تظل العلاقة بين الطاغية، وبين الطبقة المثقفة هشّة يُغلفها الحذر، لأن المثقف النزيه دوما يتطلع إلى تحرير مجتمعه من آفات الاستعباد، ويُطالب بتشريع نوافذ الحرية على مصاريعها، بعكس الطاغية الذي يتحيّن الفرص للانقضاض على شعبه، ويُحيط نفسه بمجموعة من الانتهازيين يكونون طوع أمره، ويستجيبون لأوامره بإشارة من أصبعه! يظل الكتاب هو الوجه الحقيقي لتحضّر المجتمعات، والشوكة التي تقف في حلق كل طاغية، كونه يعلم في قرارة نفسه بأن الكلمة هي التي تُغذي العقل وتُلهب المشاعر وتُحرك الضمائر، ولذا ستظل العلاقة فاترة بين الحاكم الديكتاتور وبين الكتاب، ولكن السؤال الذي يعرفه كل صاحب عقل راشد، بأن الطغاة مصيرهم مزبلة العار، بعكس الكتاب الذي يظل رافعاً رأسه وإن مر الزمان وتعاقبت السنون. يكفي أن تنفض الغبار عنه ليقصَّ عليك الكثير!