في خضمّ الأزمات التي يعيشها الشعب المصري هذه الأيام، لم يكفّ المصريون عن ممارسة فنّهم القديم، فنّ الإمتاع والنكتة. ويبدو أنّ هذه السمة سمة قديمة عندهم، وتعود إلى عصر الفراعنة. وقد كتبت الباحثة المصرية الدكتورة منال محرم رسالة كاملة نالت بها شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس عن تطوّر فنّ النكتة والإضحاك عند المصريين. وبعد أقل من أسبوع واحد من التدخل الذي قام به الجيش المصري ضد الرئيس المعزول محمد مرسي، أطلق الفنان أحمد سالم أغنيته الفكاهية «يا سيسي أمرك، أمرك يا سيسي»، مصحوبةً بفيلم كرتوني مضحك قصير، وأصدرت مجموعته الفنية مجموعة من الأفلام الكوميدية عن حركة «تمرد»، والتحرك العسكري، وحتى المظاهرات التي يقودها «الإخوان المسلمون» ضد هذا التغيير. وبمعنى آخر، فقد حاول الشباب الجدد في مصر، بعد نجاحهم في استخدام الفيسبوك والتويتر في ثورة 25 يناير ضد مبارك، أن يعيدوا إنتاج إعلام جديد عبر تبنّي برامج اليوتيوب، والكارتون الضاحك، لدعم ثورتهم، أو تحركهم ضد نظام «الإخوان المسلمين» في مصر. وكان الصحفي باسم يوسف في برنامجه الساخر، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها خلال العامين الماضيين، قد فعل الأفاعيل في تأجيج الرأي العام ضد الرئيس المعزول محمد مرسي والنظام «الإخواني». وقد فهمت الحكومة السابقة المغزى السياسي لبرنامجه وقفشاته الضاحكة، وحاولت بكل الطرق القانونية إسكاته وإبعاده عن المسرح الرئيسي في التلفزة المصرية. غير أنّ الحرب بين الحاكم والكوميديان تنتهي في العادة لصالح الكوميديان. وكل هذا يشير إلى البُعد الجدّي، وربما السياسي للهزل. ولست هنا في مجال دراسة تاريخ الهزل، أو سوسيولوجيا الضحك، كما يحلو لبعض الباحثين تسميته، ولكن قراءة متأنّية لكتاب الجاحظ الشهير عن البخلاء، على سبيل المثال، تُرينا أنه لم يكن إلا كتاباً أدبياً رائعاً في الفن الأدبي، ولكنه كذلك انتقاد لمجتمع البصرة في القرن الثالث الهجري، كما يقول محقق الكتاب المرحوم الدكتور طه الحاجري، وهو المجتمع الغنيّ الذي كان يتاجر مع الهند، وتُنقل إليه الأخشاب من شرق أفريقيا، وينعم برغد العيش، وقد أراد الجاحظ أن ينتقد هذا المجتمع عن طريق النكتة، بوسمه بصفة البخل. وقد فعل هذا كذلك مع أهل خراسان، وبصفةٍ ذكية ضد الأمويين، الذين كان بعض أمراء بني العباس يريدون أن يسِِموهم بصفة الشحّ، لتشويه تاريخهم وتراثهم في أعين الناس. وفي الوقت الحاضر، حين تضيق أحوال الناس، وتضيق صدورهم، يحاول المبدعون فيهم إطلاق النكات والقفشات ورسم الكاريكاتور، ووضع الأغاني الهزلية، ليس فقط لإضحاك الجمهور، بل لتجييش الأحاسيس، وكسب فصل في معركة الرأي العام. فالنكتة بطبيعتها بسيطة وغير معقّدة، ويمكن أن تنتقل بسرعة الريح بين المتعلّم وغير المتعلّم. كما يمكن أن تنتقل عبر وسائل الاتصال الحديثة، مخترقةً الحدود، وعابرةً الثقافات. ولا تستطيع الدول الحديثة منع النكتة، فهي غير قابلة للحجر أو المنع. وأذكر أننا حين كنا في الكلية، كان الطلاب الكوميديون يضعون مسرحيات آخر العام، ومعظمها تنتقد تصرفات أساتذتهم، وقرارات مجالس كلياتهم. وكان الجميع يأخذون ذلك بكل ترحاب وسعة صدر. فالنكتة هي انتقاد سريع ومقبول، ويقال إنّ عبدالناصر، كان يطلب كل صباح أن يسمّعوه ما يتداوله الناس في مجالسهم من نكت عن أوضاعهم الاجتماعية والسياسية. وانتقاد كل صاحب سلطة، أو تاجر، أمرٌ معروف، وقد كان بعض الأفراد ينتقدون مستوردي السيارات في بلادنا حين كانت أسعارها باهظة، ولا يقدرون على دفع قيمتها. وكان بعضهم يصف بعض طرازاتها بأنها تسخّن حين تتحرّك مفاتيحها في يديك، قبل أن تدير مفتاح ماكينتها. أما اليوم، وبعد غلاء الأسعار، فقد انتشرت نكت الغلاء، وكاد بعض الناس يشتري لزوجته وأهل بيته الفاكهة لوضعها في «شوربة» رمضان بدلاً عن الطماطم، للغلاء الفاحش الذي أصاب الخضراوات والطماطم في هذا الشهر الفضيل. واليوم، حين ترى المصريين يتقاتلون في الشوارع، على غير عادتهم، ولأغراض سياسية بحتة، من أجل الوصول إلى السلطة، أو الاستحواذ عليها، فإن الإنسان لا يستطيع تقبّل ذلك. فأين منّا الصورة النمطية للمصري العامل في أرضه، والأستاذ في جامعته، أو الطبيب في مشفاه. ونحن نفتقد تلك الروح الضاحكة القديمة التي ظلّت تصاحب الرجل المصري منذ الأزل. وكنا نسعد بها من زملائنا، سواءً المتعلمين منهم وأساتذة الجامعات، أو حتى العمّال وأصحاب الصنائع. فقد تعلمنا النكتة منهم، وأصبح لدينا اليوم بعض ممن يمتهن النكتة، سواءً في برامجه التلفزيونية، أو فيما يسمّى بنكتة المسرح «ستاند أب كوميدي». وكان بعض الفنانين القدامى مثل الأستاذ عبدالعزيز الهزاع، يتفنن في تقليد الأصوات، حتى ليقلّد اثنى عشر صوتًا في مسرحية إذاعية واحدة متكاملة، بطلها شخص واحد. وربما لن تكون النكتة هي فقط بلسم الشعوب، بل كذلك بلسم الأفراد، لذلك تحرص محطات التلفزة العربية على إطلاق برامجها الفكاهية عقب صلاة المغرب في رمضان، ويحرص كل منّا على متابعة هذه البرامج للحفاظ على توازنه النفسي والوجداني بعد يوم كامل من الصيام. وقد فقد الكثير منا في السعودية برنامج «طاش ما طاش» الذي عشنا معه طيلة ثمانية عشر عامًا مضت، وعزاؤنا اليوم في بعض البرامج الفكاهية الجديدة. وسواءً كانت النكتة نقدًا للذات، أو بلسمًا للروح، فإنّ وجود هؤلاء المبدعين من المضحكين في جنباتنا يعطي للحياة معناها وسحرها، الذي يكسر حدّة العمل وجديّته، ومآسي الأحداث السياسية التي تحيط ببلداننا العربية. وكما تقول نكتة مكتوبة على حائط في ميدان التحرير، فإنّ «بعض الناس بتقول إن الشعب المصري مش فاهم الديمقراطية، والحقيقة أنّ الديمقراطية هي اللي مش فاهمة الشعب المصري»، وربما الشعوب العربية كافة.